المواطن والحكومة: الاستقواء المتبادل!

منذ حزيران من العام الماضي، تبدو الساحة المحلية كما لو أنها بلا ضوابط. الفوضى تضرب في جميع أركانها. الشارع يخرج عن أعرافه المعتادة، ويحاول أن يكسر إرادة الحكومة ويجبرها على أن تنظر إلى الوضع المتردي الذي وصلت إليه الحال، بينما الحكومة لا توفر فرصة إلا وتحاول استفزاز الشارع بكل ما أوتيت من سذاجة ومن غياب للبديهة.اضافة اعلان
منذ أن تعنت رئيس الوزراء السابق د. هاني الملقي، ورفض سحب مشروع قانون ضريبة الدخل، وأطيح بحكومته نتيجة ذلك التعنت، والساحة المحلية لا تعرف الاستقرار.
القانون نفسه تم إقراره لاحقا في عهدة حكومة الدكتور عمر الرزاز، ولكن بصدامية تحدّ أقل. ربما لو كان الملقي يمتلك بعض الدبلوماسية وطول النفس، لكان استطاع أن يستوعب حركة الرفض التي تأسست ضد القانون، ولكان وفر علينا كل ما نختبره اليوم من احتجاجات شعبية تتعاظم تحت أكثر من عنوان، بعدما اكتشف الشارع قوته الفعلية، وعرف أن بمقدوره التأثير عميقا في مسار الأمور.
لكن، ومثلما تعنتت حكومة الملقي، نجد اليوم أن الاحتجاجات تمارس بعض التعنت والعدمية، صحيح أننا لا نستطيع أن نقول للجائع إن عليه الانتظار حتى تمطر السماء سمنا وعسلا، ولكن ما يحدث في بعض الاحتجاجات يقربها من مفهوم "معارضة لأجل المعارضة"، و"احتجاج لأجل الاحتجاج"، من دون أن تمتلك رؤية بديلة لما يتوجب أن يكون عليه النهج أو المسار المستقبلي.
المواطن يبدو كما لو أنه فقد إيمانه بقدرة أي حكومة على أن تصنع فرقا حقيقيا في حياته اليومية، لذلك ينحاز إلى عدمية مطلقة يفقد فيها إيجابيته، كما يفقد قدرته على التعاطي بموضوعية مع جميع القضايا.
وقبل أي اتهام بالانحياز أو التخندق، فإنني لا بد أن أؤكد بشكل قاطع لا لبس فيه بأن حكومتي الملقي والرزاز ارتكبتا أكثر من مجرد أخطاء، بل خطايا استطاعتا من خلالها أن تستفزا الشارع وأن تحركاه بطريقة وصلنا فيها مرحلة بات من الصعب السيطرة على ردود أفعاله تجاه أي قضية مهما بدا شأنها صغيرا، ويمكن القول إننا بتنا في مرحلة من الاستعصاء السياسي التي تتطلب إجراء إصلاحيا حاسما لإرضاء الشارع.
وإذا كان موروثنا يقول إن "الضرب في الميت حرام"، فسنترك إيراد أخطاء حكومة الملقي، لنتبين الخطايا التي ارتكبها الرزاز وفريقه، والتي أسست لحقبة جديدة من التعامل بين الشارع والحكومة. منذ اللحظة الأولى لتشكيلها، اصطدم الشارع بحكومة غير متجانسة تضم "الشامي على المغربي"، وهو خليط بدا بمثابة انتكاسة للتوقعات الكبيرة التي تم وضعها في شخصية الرزاز.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الأمر، بل تعداه نحو التعامل مع الملفات الأساسية التي يشكو منها المواطن، ومع الأحداث الطارئة التي حدثت بلا تدبير، مثل كارثة البحر الميت، ومأساة وسط البلد، وصولا إلى التعيينات التي رأى فيها كثيرون التفافا على العدالة والمساواة لمصلحة محسوبيات واسترضاءات.
مشكلة حكومة الرزاز أنها لا تراكم أي خبرة، وفي كل حدث تبدو كما لو أنها تتلمس طريقها للخروج منه متناسية خبرتها السابقة في أحداث مماثلة. ربما هذا الأمر يمثل غيابا للحساسية السياسية في الفريق، وليس للكفاءة الفنية. لكن ما هو ثابت اليوم هو أن السيطرة على الاحتجاجات الكثيرة يتطلب أكثر من خطاب رومانسي دافئ، وأكثر من ادعاءات بشفافية غائبة. الناس تريد أن ترى فرقا على الأرض، وإلا فإنها لم تعد تصدق "إبر المورفين" التي عودتنا عليها الحكومات المتعاقبة، ولا هي معنية بخطط بهلوانية خيالية يتم الإطاحة بها عند أول منعطف.