الموهبة والعبقرية: اختراع لا اكتشاف (2 - 11)

بينت في المقالة السابقة أن النموذج الجديد المحدد لشكل المستقبل تحدده العلاقة التفاعلية بين الجينات والبيئة GXE ( ج × ب) وأن مستقبل كل فرد مفتوح على أوجه شتى ليس أي منها مقرر سلفاً. وأدعوك الآن إلى التفكير في هذا النموذج ككعكة كما يقترح باتريك باتيسون أستاذ البيولوجيا في جامعة كمبردج. اضافة اعلان
عندما يطلب من مائة معد إعداد كعكة من المواد نفسها، فإن كعكة كل منهم تختلف كثيراً عن الأخرى، وإن كان لا فرق في المواد بين كعكة وأخرى. الفروق بينها تنشأ بالعملية (Process) التي يقوم بها كل معد بإعداد الكعكة. ومثله نمو الطفل/الإنسان فهو كيمياء (مركبة) مثل الكعكة أي لا يمكن تفكيك الكعكة بعد إعدادها إلى موادها الأولية.
ويبين باتيسون في كل مرة أن الطفل/ الفرد يبدأ حياته (بقابلية) النمو أو التشكل بعدد لا يحصى من الطرق. إنه يشبه صندوق الموسيقى الذي يعزف لك اللحن أو يطلق لك الأغنية التي تختارها بوضع قطعة معدنية فيه. إن في الطفل/ الفرد كما في صندوق الموسيقى، إمكانية أو قابلية لعزف نغمات نموية مختلفة، ولكنه يعزف لحناً واحداً في إطار الجهة التي تختارها البيئة التي يتفاعل معها ويعيش في محيطها التربوي/ الثقافي.
ولما كان الأمر كذلك، فإنه منذ لحظة الحمل يخضع المزاج، والذكاء، والموهبة، والعبقرية، لعملية النمو بمعنى أن الجينات بمفردها لا تصنع الشاطر، أو الغبي، أو المشاغب، أو المؤدب، أو المكتئب، أو الفرِح، أو الموسيقي، أو الرياضي، أو الأديب، أو البليد... تنتج كل هذه الخصائص أو الخصال من التأثير الديناميكي المتبادل والمعقد بين الجينات والبيئة، ففي كل يوم وبكل طريقة تقوم البيئة بتشكيل الجينات بمجرد تفعيلها. إن حياتك تتفاعل مع جيناتك. لقد تبين بالبحوث أن النموذج الجديد GXE (ج × ب) يقوم بدور حاسم في كل شيء: في مزاجك، وفي خصالك، وفي صحتك، وأسلوب حياتك، وعملك، وحياتك الاجتماعية. إنه كيف نفكر، وما نأكل، ومن نتزوج، وكيف ننام.
كانت عبارة الطبيعة والتطبيع (التربية) Nature /nurture  تبدو جيدة في القرن الماضي ولكنها ليست ذات معنى اليوم لأنه لا يوجد تأثير منفصل عن الآخر بين الجينات والبيئة، فالجينات والبيئة غير قابلة للفصل أو الانفصال ولن نستطيع فهم العالم الجديد للذكاء والموهبة والعبقرية بدون دمج هذه الفكرة في لغتنا وتفكيرنا.
يجب أن تحل مقولة النمو الديناميكي محل مقولة الطبيعة والتطبيع (التربية) لقد صارت فكرة النمو الديناميكي المثال المحتذى للموهبة أو العبقرية، وأسلوب الحياة وحسن الصحة. وهي أن الجينات تؤثر في كل شيء، ولكن قراراتها قليلة جداً. القرار النهائي للبيئة.
النمو الديناميكي هو الذي يجعل بيولوجيا الإنسان صندوق موسيقى بإمكانيات شتى من النغمات أو الألحان. بمعنى أنه لا توجد فيه تعليمات مسبقة قائمة من أجل نوع من الحياة، بل إمكانية أو قابلية مسبقة فيه لحيوات مختلفة ممكنة، فلا واحد مصيره مقرر سلفاً ليكون متوسطاً أو بين بين. إن وجود جين معين يؤدي أوتوماتيكياً إلى إنتاج نمط معين أو عدد معين من البروتينات بعد حث أو تنشيط أو تفعيل البيئة له. وفوق ذلك اكتشف علماء الجينات حديثاً أن بعض الجينات (لم يعرف عددها بعد) متحولة أو متقلبة، أي أن الجين يستطيع في بعض الحالات إنتاج بروتينات مختلفة اعتماداً على كيفية ولحظة تنشيطه.
لطالما كرر وادّعى العلماء في السابق وتبعهم الناس قائلين: هذا الفتى ولد صغير الحجم، وهذا ولد ذكي، أو موهوب، أو عبقري، أو موسيقار، أو ليكون لاعب كرة قدم، وهكذا. إنها افتراضات مغوية أو مضللة لنا نكررها في هذه المناسبة أو تلك غير أننا عندما ننظر إلى ما وراء التاريخ الجيني نكتشف أن هذه الأقوال غير صحيحة.