المُخلّص في الاعتقاد والسياسة

إنّ الاعتقاد السائد بظهور المخلّص المنتظر لا ينحصر في مادة أبحاث ودراسات العقائد واللاهوت والأديان المركونة في المكتبات وبيوت العلم، بل يتعداه إلى الحياة السياسية والثقافية، وهذا الاعتقاد ليس مؤجلاً وسيبقى إلى حين الإذن بظهور القائد المخلّص الذي ينتظر في قلب الغيب، بل هو حاضر وبقوة في الممارسات اليومية لهذه الشعوب. وظلّ حاضرا عبر التاريخ، ومؤثرا في الأحداث السياسية ومتأثرا بها. من المعلوم أن عقيدة الإيمان بمخلّص يظهر في آخر الزمان عُرفت في مختلف الحضارات والأديان والمِلل، وآمنت بها المذاهب والفرق والعقائد مع اختلافات بسيطة فيما بينها، إلّا أنها تتفق على الفكرة الراسخة الأساسية بنزول أو خروج أو ميلاد مخلّص ومنقذ في آخر الزمان، فرصدت هذه الفكرة عند قدماء المصريين، وتجلّت عند قدماء الفرس، ثم ثبت هذا الاعتقاد عند المسلمين، أما أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين فيؤمنون ويتفقون على أنّ المسيح هو المُخلّص مع اختلاف في طبيعته، والغاية من ظهوره. وإضافة الى المسيح عليه السلام، فإن المسلمين يكادون يجمعون على التنبؤ بظهور مخلص آخر، يتزامن ظهوره مع نزول المسيح وهو المهدي الذي يولد في آخر الزمان من نسل البيت النبوي، -في حين يرى الشيعة أن المهدي قد ولد فعلا، واختفى طفلا منذ أكثر من ألف عام، وأنه سيعود في الوقت المناسب ليملأ الأرض عدلا بعد أن تكون قد ملأت جوراً. تحضر العقيدة المهدوية فيما يتعلق بنظرية المُخلص، فهي أيضاً في الممارسات السياسية والثقافية في بلاد المسلمين المختلفة، ولا تقتصر على الشيعة والمتصوفة منهم، وقد اتخذت قوالب مختلفة تمثلت في تنفيذ برامج ومناهج سياسية مؤثرة هدفها «توفير الظروف الملائمة حتى يتمكن المهديّ المنتظَر من الحضور». قبل أيام قليلة، عقدت ندوة ثقافية في الفضاء الرقمي حول «نظرية ظهور المهدي في المذاهب الإسلامية ليشيع العدل والسلام»، وكانت بمبادرة من الباحث والكاتب العراقي أحمد الكاتب، وشاركهُ الحوار الداعية الإسلامي الدكتور عذاب الحمش من سورية -ولكل منهما دراسات مستفيضة في فِكر ظهور المهدي والمهدوية- وكلاهما عرضا ما توصلا إليه من نتائج تخالف الشائع والمتبع في مذهبيهما، ولهما في ذلك سلف، لعل من أبرزهم محمد الطاهر بن عاشور ومحمد رشيد رضا. وجزم الكاتب بعدم صحة ما أورده أهل مذهبه عن حقيقة ولادة الإمام الثاني عشر عند الشيعة، أو صحة الوعد به بالطريقة التي يؤمن بها عموم المسلمين، وشايعه في ذلك الدكتور الحمش من خلال الاستشهاد ببحث علمي وفق منهج أهل الحديث في نقد الأسانيد كما زعم، غير أنه حكم بصحة حديث واحد يشابه أحاديث التبشير بالمهدي، وصرفه عن عقيدة المهدوية -والعهدة في البحث عليهما. إن ما توصّل اليه هذان الباحثان المجدّان «أن كل حاكم أو قائد أو سياسي يمكن أن يكون مهدياً، فينشر العدل والرشد ويحارب الجور، ويفيض بالخير على الناس»، وهذا الطرح ينسجم مع منهج الشرع بالسعي والإيجابية والمبادرة مقابل التواكل والقعود والانتظار. فالمهدي والمخلص «هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه من بعده». ولا شك أنّ النظرية المهدوية بمفهومها الشائع أدت إلى بث أسباب الحيرة بين طوائف من المسلمين على مدى عصور طويلة، وأحيانا وضعتهم في حالة من الإرباك وهدر الجهود أو التواكل والعجز والقعود وربما كان خيار القعود هو خيارهم لأنه يعفيهم ويرفع عنهم وزر تحمل مسؤولياتهم إزاء مواطنيهم والقيام بدور المخلص من خلال سلوكهم في تحقيق العدالة ورفع الظلم والجور عن الناس. وقد دلّت حوادث التاريخ المتتابعة على أن دعاوى المهدوية يمكن أن تستغل لغايات سياسية، فقد قامت على دعاوى المهدوية دول وتأسست فوق هيكلها شرعيات حكمت في شمال افريقيا وفي بغداد والسودان ومصر، وربما لم يخلُ عصر من مدعٍ للمهدوية، والدعاة الذين يتبنون فكرها ومذهبها موجودون إلى يومنا هذا، فهذا الغيب قابل للتوظيف والاستغلال. نعلم أن الجمهور يخالفون ما توصل إليه مضعفو نظرية المهدي، ولكنّ البحث الشرعي في الموضوع يجب أن يراعي التوظيف السياسي إلى جانب الالتزام بالحيادية والبحث العلمي، بحيث يتم تجنب المزالق والمخاطر والسلبيات التي أشرنا الى أهمها هنا.اضافة اعلان