الناس والقطط..!

تسلقت القطة حاجز الأدراج الحجري، وتوقفت عند باب الشرفة المفتوح. استدارت بتثاقل وحدقت بي عيناً بعين، وشرعت في مواء متوسل. رشح من حركاتها تحفز للهروب، وانتقل إليّ إحساسها المراوح بين الشجاعة والخوف. مع ذلك، استمرت زمناً في موائها الكسير من دون أن تكفّ عن التحديق في وجهي. حاولت فهم ما تريد أن تقول. هل تريد طعاماً أو ماءً؟ هل تشكو من أحد أو شيء صادفها في الطريق، أم أنها تشعر بالوحدة وتريد أن تثرثر فقط بأي شيء؟ على أي حال، يبدو أنها أيِست سريعاً من المونولوج الذي أدته وحدها، أو أنها قرأت في عيوني حيرتي ووحدتي الشخصية في ذلك الصباح الكسول، فاستدارت ومضت متسكعة كما جاءت، لا تلوي على شيء. سمعت مواءها المستسلم المبتعد بعض الوقت، قبل أن يتلاشى في هدوء الصباح الناعس.اضافة اعلان
كثيراً كنتُ أفكر في عالم هذه الكائنات التي تعيش بيننا، ونتعثر بها من دون أن نلحظها تقريباً. ليست مفيدة لنا بأي شكل محسوس. لا نركب ظهورها ونتباهى بالفروسية ونلوح بالسيوف؛ لا نسخّرها لأداء أعمالنا الشاقة بدلاً عنا كما نفعل بالحمير، ولا ندخر أرواحها للموائد والحفلات والتعالي الطبقي مثل الخراف والدجاج. وأيضاً، لا تصنع لنا القطط جماليات مشهدية خاصة مثل الطواويس أو الببغاوات الحكاءة مثلاً. ثم، بماذا تفكر القطط، المطاردة غالباً، والباحثة عن قوتها في أكياس القمامة والحاويات، وتظل موضوعاً جاهزاً للدهس تحت عربات المجانين أو قصيري النظر؟ أي شيء ينتظرها أو تنتظره في هذا العالم إن لم يقيَّض لها بشري غاوٍ للقطط يستأنسها ويدفئها؟ أيّ اجتماعيات لديها، ربما سوى لحظات بلا إلفة ولا حميمية في موسم التزاوج، حين تدفعها غريزة قاهرة إلى تمسك عبثي باستمرار الحياة من خلال استمرار النوع، قبل أن تموت ميتة الفقير التي لا يعلم بها أحد؟!
كثيراً أيضاً تصورت البشر كائنات شبيهة نوعاً ما، تعيش بين أقدام كينونات أعلى، تنظر فينا وتتساءل هي الأخرى عما نريد أن نقول، ولا تفهم تجوالاتنا وإصرارنا على استمرار النوع -كثيراً بقتل نفس النوع وإعدام الشبيه! لسنا قطعاً نسخاً عن القطط التي تلد أمهاتها الصغار يتامى الأب بالولادة، وترعاهم زمناً قصيراً قبل أن يذهبوا لطياتهم. ولا يعود هؤلاء للأمهات بهدية في العيد القادم ولا يُكرمون شيخوختهن. والأمهات لا يقلقن على مصائر الصغار ولا يعرف الأب المجهول أنه أنجبهم أصلاً. وربما إذا عاشت العائلة في حيّ واحد، يلاحق الصغير أمه التي لا يعرفها وينجب منها مثل أوديب -من دون أن يعاقب نفسه بسمل عينيه مثل أوديب. ولكن، أي منطق يمكن أن تصنعه ترتيبات نوعنا البشري وطرائقنا في غابة حياتنا الكبيرة في عين الكينونات الأعلى المحتملة؛ في ذلك الوعي الذي يرى كلامنا مجرد مواء بلا معنى، والذي ننجرّ منسحبين من أمامه وقد أيِسنا من احتمال الحوار؟
شاهدت ذات مرة شخصاً في دراما تلفزيونية، أصيب بسكتة أقعدته وعقدت لسانه. كان الرجل العاجز يسمع ما يقول عنه الآخرون، ولا يستطيع تصحيح ما يدّعون. أحياناً، يستنتج أحد أنه برد ويجب جرّ كرسيه المتحرك إلى الداخل، في حين يكون مذبوحاً للاستمتاع بالطقس ولا يريد الدخول، فيسحبونه. أحياناً يتحدثون عن ضيقهم به، ولا يستطيع أن ينطق ليذكرهم بما صنع لهم وبكم ضايقوه. أحياناً يقسمونه ويتقاسمونه ويختارون له وعنه، وكأنه حيوان أليف بلا وعي ولا إرادة. وفوق ذلك، يجعلنا صانع الدراما نسمع ما كان يريد أن يقول المسكين لو استطاع أن يقول. ما أكثر بؤسه وقلة حيلته!
خرس اللسان؛ مراوغة المشاعر واختناق الأسئلة -أو حتى إفلات أصوات تفلق نفسك لتجعلها مفهومة، فقط ليسمعها مجردَ مواء كائن هائل قياساً إليك، يطالعك من مقعد شرفته بنظرة متسائلة، إذا لم يطردك أصلاً؛ إصرارنا على التجوال بحثاً عن المعنى، وغرامنا باستمرار النوع وابتكار الغايات؛ تمسحنا بالأبواب الموصدة التي لا يفتحها لنا أحد؛ شكواك من الجوع أو السجن أو من ثقل على الصدر، والتي تتحول في الأثير إلى همهمات بكماء تقهرك فقط؛ انسرابك المتسكع مع وحدتك التامة رغم كثرة الكائنات التي تتعثر بها وتتعثر بك. ثمة تماثلات بين الناس والقطط!

 

alaeddin1963@