النراجسة

 

ربما تكون مهمة عسيرة تغيير النفوس، وهي ابتداء كانت هدف الأديان والفلسفات على مدار التاريخ الإنساني، فهي تسعى على الدوام إلى اكتشاف ما يمكن للإنسان أن يمنحه لنفسه، والناس أكثرهم يعملون بدافع الواجب، ماذا يمكن أن نفعل لنعالج انفسنا ونعدل سلوكنا على النحو المطلوب والمرغوب؟ ربما يكون فهمنا لمشكلاتنا ومحاولتنا لعلاج أنفسنا أفضل ما يمكن أن نقوم به لمعالجة أمراض وظواهر مرعبة ومدمرة في حياتنا ومجتمعاتنا.

اضافة اعلان

فالاستغراق في الذات أو النرجسية هو مرض يحتاج إلى تدخل علاجي طبي، ونحن هنا في مواجهة حالة وباء يتفوق على إنفلونزا الخنازير والطيور، وإذا كانت القبلية معوقا أمام الإصلاح والديمقراطية ونشوء المدن وتطورها فإن قبيلة النراجسة التي ربما تكون القوة السياسية والاجتماعية الأكبر في مواجهة التنمية والإصلاح، ولكن مواجهة النرجسية والنراجسة لا يمكن إلا بنشوء رغبة ذاتية في التغيير، الاعتراف بالمشكلة أولا، وبغير ذلك فسوف نظل ندفع ثمنا كبيرا على حساب سعادتنا وتماسك الأسر ونجاح الأفراد والمؤسسات، وإذا لم يكتشف بخاصة الكتّاب والسياسيون والفنانون أنهم يعانون من مرض يحتاج إلى علاج ذاتي فسوف نظل في معاناة مدمرة.

إن وظيفة العقل هي ترقية الحياة كما يقول الفلاسفة، وإذا لم تتشكل قواعد عقلانية للعمل والسلوك والحياة فإننا نغرق في بحر من الخواء والتفاهة، المدارس والجامعات والصحف والمحطات الإذاعية والتلفزيونية وشبكة الإنترنت والمجالس والمقاهي تتحول إلى شبكة من الخواء والعبث والصرف الصحي، ثم إن هذه الشبكات تبث فينا محتوياتها وتشكلنا على النحو الذي تنتجه!

يفاجئني إريك فروم بالقول إن الإنسان ليس حيوانا، وهذه إحدى مشكلاته، لأنه لو كان حيوانا لكان عاقلا تماما، لأن الغرائز الأساسية في الحياة توجه الإنسان لصالحه، ولذلك فإن الحيوانات لا تدمر نفسها، وتعمل على نحو منظم وواع للاحتياجات الحقيقية والأساسية، وبالطبع فإنها عبارة حتى تبدو صحيحة تحتاج للتمييز بين الغرائز والأهواء وبين العقل والفكر.

فليس عند الحيوان حسد ولا رغبة تدميرية لأجل التدمير ولا رغبة في الاستغلال او الهيمنة أو السادية، وهي تظهر لدى الإنسان ليس لأسباب غرائزية.

وهكذا فإنه لتحقيق النمو الإنساني نحتاج إلى شروط معينة، ولا مناص للمريض لكي يتغير من أن تكون لـه إرادة هائلة ودافع قوي إلى التغيّر، وليس لدي الحق أن أتحدث من وجهة نظر القاضي لأحكم على التصرفات والكتابات وأنماط السلوك، ولكنا نملك جميعا الحقيقة الواقعة بأن أحدا لا يتعافى ما لم يكن لديه شعور بالمسؤولية والمشاركة.

كان النمو الإنساني النفسي الصحيح يدرج في فلسفة الأخلاق والفكر، وفي ثقافتنا يفترض أن تكون إجابات تتطور وتتغير لتجعل للحياة معنى ولتوجه السلوك والأفكار والمواقف، أن نصنع شيئا في حياتنا، أو ننجح، أو نرتقي في السلم الاجتماعي والاقتصادي، وإذا كان ذلك يقتضي عملا متواصلا وشاقا فإن تشكيل الذات وفق هدف مرغوب فيه يحتاج إلى تدريب وعمل طويل ولا يتحقق تلقائيا بمجرد النمو ومرور الزمن، وكما يتدرب لاعب كرة القدم ساعات طويلة يوميا فإن الإنسان السوي يحتاج إلى ساعات طويلة من التدريب والتشكيل لينجو من العاهات والأمراض النفسية والعقلية والسلوكية.

[email protected]