النضال من أجل الخبز اليومي

باعة ومشترون في أحد أسواق الحبوب الإفريقية -(أرشيفية)
باعة ومشترون في أحد أسواق الحبوب الإفريقية -(أرشيفية)

ديفيد ريف* - (النيويورك تايمز) 14/10/2011
ترجمة: عبد الرحمن الحسينياضافة اعلان
إذا كانت كلمة "أزمة" قد استخدمت بإفراط وبشكل واسع، فإن الحديث عن أزمة غذاء كونية ظل قاصراً في كل الأحوال. وقد بدأت أولى إمارات المشكلة في العام 2000، عندما تراجعت حصص الحبوب الكونية لأول مرة منذ عدة عقود. لكن مدى فداحة ما كان يحدث لم تتضح إلى أن حل ربيع العام 2007. وخلال ذلك العام، تضاعفت من الناحية الفعلية أسعار السلع الغذائية الأساسية -الأرز والذرة وفول الصويا والقمح- في أنحاء العالم كافة. وكان هذا ارتفاعاً غير مسبوق، والذي قلَب مسار أكثر من 50 عاما من الأسعار المتدنية. وقد هبطت أسعار الحبوب بواقع 75 % بين العام 1950 ونهاية أعوام الثمانينيات، وظلت منخفضة حتى الأعوام الأولى من القرن الجديد.
كانت النتائج مباشرة وكارثية: وفق معظم التقديرات المحافظة، فقد ارتفع عدد الناس الجياع أو المصابين بسوء تغذية مزمنة بواقع بلغ على الأقل 100 مليون شخص، ليصل إلى بليون شخص تقريباً؛ أي إلى ما يصل تقريبا الى سُبع عدد سكان العالم. ونتيجة لذلك، اندلعت أعمال الشغب الغذائية وغيرها من أنواع القلاقل في شتى أرجاء العالم. وكان من النتائج الجيدة أن الزراعة استعادت مكانها الصحيح والمركزي في أجندة التنمية بعد عقود من كونها الابن المتبنى الفقير (نسبة المساعدة الأميركية الأجنبية المخصصة للزراعة هبطت من 17 % في العام 1980 إلى حوالي 3 % في العام 2006).
لكن تنبغي الاستجابة للأسباب الجذرية للأزمة على نحو مناسب. وتبقى هذه الاستجابة مهمة على نحو خاص، لأنه في الوقت الذي تراجعت فيه أسعار الحبوب على الصعيد الكوني بشكل كبير منذ العام 2008، فإنها أصبحت مرشحة للارتفاع ثانية. وعندما ترتفع بالفعل -يوافق الاختصاصيون على أنها سترتفع، في منتصف الفصل على الأقل- فإن من المرجح أن تفضي الكلف من المعاناة الإنسانية والاضطرابات السياسية والاجتماعية على حد سواء، إلى جعل أزمة أسعار العام 2007 تبدو شاحبة بالمقارنة.
لعل من السهل ازدراء المؤتمرات المختلفة، والاجتماعات الطارئة ووثائق السياسة غير المنتهية كما يبدو، والتي حاولت تخفيف وطأة التهديد، لكنها لم تنجز حتى الآن سوى النزر اليسير. ومن النزاهة، مع ذلك القول إن الاستجابة على نحو فعال ستكون صعبة بشكل غير اعتيادي. ورغم ما زعمه بعض النقاد المؤدلجين مؤامراتيا، فإن للأزمة عددا من المسوغات التي ينطوي كل واحد منها على تحديات كافية، لكنها تبدو لدى النظر إليها معاً وأنها تدعو إلى إعادة هيكلة راديكالية من الصعب تخيلها في المناخ السياسي الراهن.
وتشتمل هذه المسوغات على تحويل الحبوب في أميركا الشمالية وفي أوروبا الغربية إلى خطوط إنتاج الوقود النباتي: كلف طاقة أعلى تترجم إلى أسمدة كيميائية أغلى ثمناً، ومضاربات مالية منذ العام 2000 حول المحاصيل الأساسية، ما يسبب في تقلبات الأسعار.
وكأن هذه الأمور لم تكن سيئة بما يكفي، فإنها ما تزال تجري خلال فترة نمو سكاني سريع جداً. وفي بعض المناطق التي تشهد زيادات ديموغرافية درامية؛ مثل منطقة الصحراء الأفريقية وأجزاء من جنوب آسيا، يهدد تغير المناخ بخفض منتجات المحاصيل بالضبط في وقت تمس فيه الحاجة إلى إنتاج مزيد من الأغذية الرئيسية بإلحاح.
ورغم أن الجميع يوافقون على أن هناك حالة طوارئ غذائية، فإن هناك القليل من الاتفاق على ما يجب عمله. وتقول الطريقة المهيمنة التي تقودها وتمولها إلى حد كبير مؤسسة بيل وميليندا غيتس -وهي الآن الممول الخاص الرئيسي للبحوث الزراعية- تقول إن أزمة الغذاء الكونية هي بالأساس نتيجة للإنتاج الغذائي غير الفعال وغير الكافي على حد سواء. ولذلك، فإن الحل هو ما وصفه غوردون كونواي؛ الرئيس السابق والمؤيد الرئيسي الآخر لعمل الخير لهذا الجهد، وصف الحل باسم "الثورة الخضراء المزدوجة". وعرف كونواي هذا بأنه حشد "لقوة العلم والتكنولوجيا، ليس للأفضل أو حتى الأغلبية، وإنما لتلك الملايين من الفقراء والجوعى الذين يستحقون ولديهم الحق الكافي في أن يأكلوا".
ويقف ضد وجهة النظر هذه الاختصاصيون الزراعيون الذين تجمعوا حول تنظيمات وائتلافات؛ مثل "حركة الحق في الغذاء في الهند"، ومؤيدوهم الفكريون؛ مثل أوليفيار دي شوتر، المقرر الخاص للأمم المتحدة حول الحق في الغذاء. وهم يحاججون بأن البيئة الزراعية -تطبيق المبادئ البيئية على الزراعة- تعرض فرصة زيادة إنتاج المحاصيل من دون اللجوء إلى الإضافات غالية الثمن، والتي تتمتع ببراءة الاختراع؛ مثل الأسمدة الكيميائية أو البذور المهندسة جينياً، والتي تفوق قدرة أصحاب المزارع الصغيرة الفقراء في أفريقيا أو آسيا. وهم يحاججون أيضا بأن أزمة الغذاء الكونية هي أقل كمشكلة فنية قابلة لحل فني، من كونها أزمة اجتماعية وسياسية تقع جذور حلولها، وبشكل واسع، في خلق نظام عالمي أكثر نزاهة ومسؤولية.
حتى الآن، تظل الطريقة الفنية في الاتجاه التصاعدي. أما إذا كانت ستظل كذلك لفترة أطول، فسيعتمد ذلك إلى حد كبير على ما إذا كانت ابتكاراتها ستفي بفواتير إنتاجها وتكون مستدامة ماليا وتثبت أنها مقبولة ثقافيا للمزارعين في العالم الفقير. ومن المحتمل أن يوافق الجانبان على أنه لا الابتكار الفني ولا البيئة الزراعية يستطيعان أن يكونا مجديين ما لم تكن الحكومات ملتزمة بالكامل بخفض عدد الناس الجوعى الذين يعانون من سوء تغذية مزمن.
وعندما التزمت الحكومات، أصبح التقدم سريعا جدا كما أظهرت الأمثلة في الصين وتايلاند وفيتنام والمكسيك، وبشكل متألق أكثر ما يكون في البرازيل، وبشكل نهائي في العقود الثلاثة الأخيرة. لكنها عندما لم تكن ملتزمة، كما هي الحالة في الهند للأسف -حيث يظل معدل سوء التغذية لدى الأطفال دون الخامسة من العمر ثابتاً عند 46 %؛ أي ضعف معدله في منطقة جنوب الصحراء الأفريقية- فإن الظروف تتدهور.
ولكن، إذا كانت أزمة الغذاء الكونية فعلية، فإنها تكون قابلة للحل. ولعل أحد أعظم إنجازات القرن العشرين كان جعل المجاعة -رغم سوط التاريخ البشري الذي بدا محتماً مثل رجال الأحصنة الثلاثة الآخرين في سفر الرؤية: الحرب والطاعون والموت- أمرا نادرا. واليوم، فإن المجاعة في الغالب والتي تظل ثابتة هي من نتاج الحكومات الشريرة؛ حيث تمثل كوريا الشمالية حالة واضحة، أو حيث لا حكومة أصلاً كما في الصومال. وتجب إعادة الجوع غير القاتل والآفات الزراعية إلى الماضي، تماما مثلما يحدث مع الجوع الذي يقتل.
*صحفي يتخذ من نيويورك مركزا له. وهو مؤلف لثمانية كتب، ويكمل حاليا كتابا تاسعا عن أزمة الغذاء الكونية.
*نشر هذا التقرير تحت عنوان: The Struggle for Daily Bread