"النظام المدرسي".. من هنا يبدأ الإصلاح!

 تصورت دائماً أن متاعب الإنسان تبدأ مع يومه الأول في المدرسة. ففي هذا اليوم، تبدأ علاقته مرة وللأبد بالضبط والربط وحساب الوقت، ومع أول شكل من أشكال السلطة الخارجية أيضاً، ولا ينتهي ذلك حتى آخر نفَس. ومع أن من المستحيل إقناع الطلبة بالوقوع في غرام المدرسة، فإنه يبقى من الممكن، بل من الواجب أن تكون المدارس بيئات جاذبة قدر الإمكان، وأن يتمتع فيها الطالب بأكبر قدر من الحقوق الإنسانية الأساسية: الحرية؛ الحق في المعرفة، كل المعرفة؛ والتدرب على الاختيار وكيفية اتخاذ القرار؛ وغير ذلك مما يلزم ليتخرج الطالب بشخصية اجتماعية متماسكة، تؤهله لانخراط ناجح في العالم المتشابك.

في هذا الإطار، ثمة أحداث طريفة وجديدة تحدث في مدارسنا، ولو أنها تخفي وراءها الكثير من الجدية: لقد أصيب طلبتنا بالعدوى الصحية للحراك العربي الراهن، فأقاموا الاعتصامات ورفعوا الشعارات. وقبل ذلك أجروا انتخابات "برلمان الطلبة"، واختبروا "التزوير" في الانتخابات، حيث يفوز طالب بأكثر من سبعين صوتاً في صف من ستين طالباً، وبإشراف المدير! وتصورت بمرح استبدال "صندوق الاقتراع" بآخر فيه أصوات "صبّ" ذهب إلى الوجهة الخطأ. وسألت ابنتي عن انتخابات مدرستها، فقالت لي إن سبع طالبات ترشحن في صفها، وفازت اثنتان إحداهما لم يصوت لها أحد بالتأكيد، لكنها مفضلة عند مربية الصف. وقالت إن الطالبات وضعن في الصناديق أي عدد يردنه من الأوراق. تزوير من أولها؟ لا بأس مع ذلك.

الشيء الطريف الآخر، كان "برامج" الطلبة المرشحين. فقد رفعت زميلات ابنتي شعارات: "لا للطابور الصباحي"، و"نريد حمامات نظيفة"، و"اسمحوا لنا بتطويل الأظافر"، "الدوام من التاسعة إلى الواحدة". وطالب آخرون بخفض أسعار الزي المدرسي، وأسعار "الشبس" في المقصف المدرسي.. ثم ارتفع السقف إلى المطالبة برحيل مديرين، ليصل أخيراً إلى الشعار العالي: "الطلاب يريدون إسقاط النظام المدرسي". وللحق، فإنه يكفي استبدال كلمة "إسقاط" في الشعار المتفائل بكلمة "إصلاح" حتى يصبح واقعياً ومستحقاً وبالغ الجدية. وليس أدل على فساد نظامنا التعليمي من سوء مخرجاته، والتي يبقى المتضرر الأساسي منها هو الطالب، أي الإنسان الأردني، وبالتالي الوطن كله. وهو نظام يجعل، بشكله الحالي، كل الأيام، وليس المدرسة فقط، مجلبة للمتاعب الشخصية والضرر الجمعي.

يفضح المناخ الحالي تواطؤ القول بفصل السياسة عن المدارس أو أي شيء. والحقيقة أن "النظام المدرسي"، بقادته ومخططيه ومناهجه، هو التسييس عينُه، وهو الرأس الذي يبدأ منه الفساد أو الصلاح كله. إنه المسؤول عن إنتاج عقل سكوني أو آخر نقدي؛ وهو المسؤول عن إنتاج كينونات خانعة وقانعة أو أناس منتبهين وحادي الحواس؛ عن خلق ذهن سلبي يتناول الأوامر والثوابت بالملعقة، أو آخر يتقن محاكمة المُدركات، فيقبل شيئاً ويرفض آخر أو يطوره؛ وهو النظام المسؤول قطعاً عن إنتاج إنسان راغب وعارف بمعنى المشاركة السياسية وبأهميتها كفاعل اجتماعي، أو آخر مرتجف يمشي "الحيط الحيط" ويفضل تسليم ناصيته لمن يرتبون له أيامه ووجهاته.

لقد برهنت مشاركة طلبة مدارسنا، على طرافة مطالبهم، أنهم غير منفصلين عن الحدث العام والسياسي، وقد استغلوا أول فرصة لتحدي ثقافة الخوف التي يتورط في تكريسها النظام التعليمي، خاصة الخوف من "غول السياسة". وإذا أردنا حقاً مجابهة استحقاق الإصلاح على مستوى استراتيجي، فمن المدرسة ينبغي أن يبدأ تحت كل عناوينه: الاقتصادي، والاجتماعي، والمؤسسي والسياسي. وينبغي الكف عن الفصل التعسفي بين هذه المفهومات المجردة وبين تحققاتها العملية: بمعنى أن هذه العناوين الطنانة ليس لها معنى إن لم تكن، عملياً، متعلقات بالأفراد الذين يحدثون كل الفرق. إن الناس هم الاقتصاد، والمجتمع، والمؤسسة والسياسة في نهاية المطاف، وهي كلها صنائع عقولهم وأيديهم.

اضافة اعلان

لذلك، وغيره الكثير، يجب البدء بتعليم أبنائنا أولاً أن السياسة ليست جريمة توجب لصاحبها المسؤولية والعقاب. وقد أثبتت الأحداث العربية الحالية أن التجهيل والتخويف لا يعفيان أي نظام مَعيب من الانقلاب عليه، وأن أبناءنا أكثر وعياً من أن تمرّ عليهم وسائل أصبحت مكشوفة وصفيقة. وثمة كل المسوغات لنأمل فكرة بدء الإصلاح من عندهم، من المدارس بالتحديد، إذا توافرنا على حسن النية.

[email protected]