"النقد الدولي" يحذر من أسس عقيدته

بعد أكثر من ثلاثة عقود من تبنيه مبادئ المدرسة الاقتصادية المعروفة بمسمى "الليبرالية الجديدة" (Neoliberalism)، لاسيما في برامجه لـ"الإصلاح الاقتصادي" في البلدان النامية المدينة؛ تبدو مفاجأة أن يبادر صندوق النقد الدولي إلى نشر دراسة لثلاثة من باحثيه، تحذر من جوانب سلبية لـ"بعض" ركائز هذه المدرسة.اضافة اعلان
فقد خلصت الدراسة المنشورة في عدد حزيران (يونيو) الحالي من مجلة "التمويل والتنمية" الصادرة عن "الصندوق"، وتناولت تأثير "حرية تدفق رأس المال" من دون أي ضوابط، و"سياسات التقشف" الهادفة إلى خفض العجز المالي ومستويات الدين، إلى ثلاث نتائج رئيسة سلبية: إذ "عند النظر إلى مجموعة واسعة من البلدان، يبدو من الصعب القول بتحقق منافع على صعيد زيادة النمو الاقتصادي". في المقابل، "تبدو بيّنة التكاليف المتمثلة في زيادة عدم المساواة" (في توزيع الدخل). وهذه الأخيرة، "تؤدي بدورها إلى الإضرار بمستوى النمو الاقتصادي واستدامته". ومن ثم، يؤكد باحثو "الصندوق"، أنه "حتى لو كان النمو هو الهدف الوحيد أو الرئيس لأجندة "الليبرالية الجديدة"، فإنه ما يزال يتوجب على المدافعين عنها تركيز الاهتمام على آثار(ها) التوزيعية".
طبعاً، لا تبدو هذه النتائج جديدة تماماً بالنسبة للمختصين، بل وكما تُظهر المراجع التي استندت إليها دراسة "الصندوق" ذاتها، فإن بعض النتائج تؤكده دراسات صادرة قبل قرابة عقد ونصف العقد، لاسيما فيما يتعلق بتحرير رأس المال، وضرورة التمييز بين الاستثمارات الأجنبية المباشرة التي تتضمن نقلاً للتكنولوجيا أو رأس المال البشري، فتعزز النمو فعلاً على المدى البعيد، وبين المحافظ الاستثمارية ورأس المال المضارب، على سبيل المثال، واللذين يزيدان فرص خلق أزمات اقتصادية في البلدان المستقطبة لهكذا أموال.
لكن تظل القضية الإشكالية الفعلية متمثلة في مستويات الدين العام وسبل تخفيضه. هنا يبرز، ابتداء، الجدل الاقتصادي العام بين مدرسة لا ترى خطورة في ارتفاع الدين العام، مقابل أخرى (لاسيما "الليبرالية الجديدة") تحذر من مخاطره على النمو والرفاه الاجتماعي، وبشكل أخص في حال وقوع أزمة اقتصادية. لكن الأهم هو التحذير من أن يتم تخفيض الدين العام بشكل "بطيء جداً" يؤدي إلى توتر الأسواق، أو "سريع جداً" يُخرج التعافي الاقتصادي عن مساره، من خلال تقليص الإنفاق العام المنتج، وزيادة الضرائب التي هي تشويه للنشاط الاقتصادي من حيث المبدأ. هذا عدا عن أن التخفيض ولو بشكل كبير لدين في مستويات مرتفعة أصلاً، لا يمكن أن يؤدي إلى الحماية من تداعيات أزمة اقتصادية قد تقع في المستقبل؛ إذ سيظل الدين كبيراً نسبياً رغم ارتفاع تكلفة تخفيضه.
لكن هنا لا بد من التنويه إلى أنه فيما يتعلق بالتعامل مع الدين العام، وفق الرؤية السابقة "المتوازنة"، تقتصر دراسة "الصندوق" على الدول المتقدمة أو الغنية فحسب! وليس ذلك لعدم انطباقها (الرؤية) "نظرياً" على الدول النامية المدينة، بل لأن هذه الدول لا تملك الخيار، إذ ستُحرم من الاقتراض ما إن تتوقف عن سداد ديونها السابقة. وهو ما يوصل إلى النتيجة الأهم التي لم تذكرها الدراسة: برامج الإصلاح الاقتصادي، في حالة الدول النامية، لا يمكن أن تكون إصلاحاً فعلياً، إلا بقدر ما تكون وطنية؛ عبر اجتراح آليات توازن بين السيطرة على الدين العام والعجز وبين استمرار النمو. هذا إضافة إلى تنظيم تدفق رؤوس الأموال الأجنبية، كما تؤكد الدراسة فعلاً.