النكبة.. لحظة عابرة في تاريخنا الطويل..!

من الصعب تعقب أي إيجابيات في 71 عاما من النكبة الفلسطينية. ثمة شعب كامل سُلبت منه أرضه وحريته، وتوزَّع بين الأسر والمنافي؛ وولدت له أجيال متعاقبة محكومة بقدر المعاناة والصراع ومحرومة من تقرير المصير. لكنَّ الضرر وقع، وترتب على أبناء هذه الحقبة من التاريخ الفلسطيني الطويل أن يعانوا المحنة ويناضلوا هم هذه المرة ضد غازٍ آخر سيذهب مثل الآخرين. لم تكن الأضرار قليلة على مدار هذه العقود السبعة، خاصة وأنها جاءت استمرارية لصنائع المحتلين البريطانيين الوحشيين: الهجرة تحت سياط الخوف واختبار اللجوء؛ الصدمة النفسية العميقة والفقدان الدائم للأمن والاستقرار؛ خسارة عشرات الآلاف من الأرواح في الاشتباك المستمر مع عدو همجي؛ والمعايشة المستمرة لأسوأ حالة من الظلم المصادق عليه دوليا، حيث اعترفت المؤسسات الدولية للغرباء الغزاة بحق إقامة وطن لهم على أنقاض وطن الفلسطينيين التاريخي وعلى حساب الوجود الفلسطيني نفسه. لكن الفلسطينيين نجوا من الضرر الأساسي بالبقاء في وجه حملة المحو والإبادة الجماعية ضدهم ومحاولات إنهاء قضيتهم كشعب، ولم يسقطوا في ثقب النسيان. وقد تمكن الآباء والأمهات المصدومون الذين انقلبت حياتهم رأساً على عقب ووجدوا أنفسهم في العراء، من استعادة رباطة الجأش والحيوية. ومن بؤس المخيمات والوحدة المطبقة، اجترحوا معجزة الأمل من رحم اليأس، وربوا جيلا من الأبناء الناجحين الذين ساهموا بفعالية مشهودة في بناء الكثير من دول المنطقة وأسسوا لنهضتها المعرفية. ومن المخيمات أيضا، تخرج الجيل الأول من المقاتلين والمناضلين الذين لم يتركوا العدو ينام حتى الآن. من الأجداد الذين عاشوا أول النكبة حتى أبناء الأحفاد، ما يزال ارتباط الفلسطيني بالوطن والهوية قويا لم يهزه شيء. وسيقول لك الفلسطيني بمجرد أن يتعلم الكلام، أينما وُلد وفي أي منفى، من أي مدينة أو قرية فلسطينية هو. وسوف يحمل الطفل الفلسطيني في الوطن المحتل الحجر ويقذف به العدو كفعل غريزي بمجرد أن يتمكن من حمل حجر. ضمن الفلسطينيون بإصرارهم عدم ضياع الحق بوجود شعب كامل من المطالِبين. وخلال كل هذه العقود من العمل العدواني الكثيف المتسلح بكل الأدوات ودعم زعيمة الإمبريالية، أميركا، فشل المشروع الصهيوني في ضمان بقائه وتأمين مستقبله في الأرض المحتلة لأكثر من الوجود اليومي غير المكفول غداً. وكان، وما يزال، وسيبقى محكوما بالعيش مع الخطر والخوف واحتمال الانهيار. ويؤمن الفلسطينيون بحتمية هذا الانهيار كمسألة وقت وشروط فحسب. لم يسبق أن تمكن كيان استعماري عدواني من البقاء إلى الأبد في محيط يرفضه ويريد أن يلفظه في أول فرصة. وإذا تأخرت ظروف انهيار الاحتلال، فإنه متجه إلى كيان تمييز عنصري تحكم فيه أقلية غريبة أغلبية من أصحاب الأرض التاريخيين بالطرق القسرية. وإذا كان التاريخ دليلاً، فإن أنظمة التمييز العنصري تحمل معها أدوات انهيارها. يثبت عيش المحتلين تحت الخوذ والسلاح وخلف الجدران كل هذه العقود أنهم لن يستقروا في فلسطين. ويحتفظ معظم هؤلاء بجوازات سفر الدول التي جاؤوا منها كبطاقة تأمين حين لا تعود تنفعهم الملاجئ. وسوف يحملون حقائبهم الخفيفة ويمضون دون أن يربطهم بوطن الآخرين الذي اختطفوه تاريخ ولا عاطفة ولا جذور. وفي النهاية، ليس تكوين الكيان الاجتماعي –وحتى العسكري- سوى كيان مصطنع هش لا يقيمه إلا تفرق المحيط ودعم الأميركيين والتواطؤ الرسمي الدولي. لا تهم أي "حقائق على الأرض"، أو ما يُقال عن "صفقة قرن" وأي قرارات يتخذها الأميركان إذا تغيرت موازين القوى هنا، كما تفعل دائماً في سيرورة التاريخ. "الحقائق" تصنعها وتغيرها القوة. والقرارات تمحوها العزيمة والصبر والإصرار على الرفض. وفي كل الأحوال، لم يكن الفلسطينيون بالضبط كفا تلاطم مخرزا بقدر ما كان حال الغزاة معهم كحال ابن آوى الذي ابتلع منجلا يمزق أمعاءه حتى يلفظه. لا يحتاج الفلسطينيون إلى يوم يذكرهم بالنكبة وهم يعيشونها يوميا. لكنهم يتخذونها مناسبة لتأكيد إيمانهم المطلق بعدالة قضيتهم وإصرارهم على فلسطينيتهم، وتجاهل "النصائح" بالاستسلام. وسوف يفكرّون في خبرة النكبة كفصل عابر في تاريخ فلسطين التي طردت الكثير من الغزاة، وسيرددون الحقيقة التي سجلها توفيق زياد: "أي شيءٍ يقتل الإصرارَ في شعبٍ مُكافحْ/ وطني مهما نسَوا، مرَّ عليهِ ألفُ فاتحْ/ ثمَّ ذابوا، مثلما الثلجُ يذوبْ".اضافة اعلان