النمو في زمن التعطل

مايكل سبنس*

فلوريداـ تواجه البلدان النامية عقبات كبرى ــ ولا يمكنها السيطرة على هذه العقبات إلا قليلا إن كان ذلك بوسعها ذلك على الإطلاق ــ تحول دون تحقيق النمو المرتفع المستدام. وبعيدا عن الرياح المعاكسة المتولدة عن تباطؤ النمو في الاقتصادات المتقدمة والأوضاع النقدية والمالية غير الطبيعية في مرحلة ما بعد الأزمة، هناك أيضا التأثيرات المعَطِّلة المتولدة عن التكنولوجيا الرقيمة، والتي تكاد تتسبب في تآكل الميزة النسبية للاقتصادات النامية في أنشطة الصناعة التحويلية التي تحتاج إلى عمالة كثيفة. ولأن عكس هذه الاتجاهات أمر غير وارد، فإن التكيف معها هو الخيار الوحيد.اضافة اعلان
لقد حققت الروبوتات بالفعل نجاحات كبيرة في مجال تجميع الإلكترونيات، ومن المرجح أن يكون المجال التالي صناعة الملابس، التي تشكل تقليديا نقطة دخول العديد من الدول إلى النظام التجاري العالمي. ومع استمرار هذا الاتجاه، فسوف تتضاءل حتمية بناء سلاسل الإمداد في المواقع حيث العمالة غير متحركة نسبيا وغير مجدية من حيث التكلفة، مع انتقال الإنتاج إلى مواقع أقرب للسوق النهائية. فشركة أديداس على سبيل المثال، تبني الآن مصنعا في ألمانيا، حيث ستنتج الروبوتات أحذية راقية ورياضية، كما تخطط لبناء مصنع ثان في الولايات المتحدة.
يتعين على الدول النامية نظرا لكل هذا أن تعمل الآن على تكييف استراتيجيات النمو التي تنتهجها. وأي إطار معقول لتحقيق هذه الغاية لابد أن يراعي عِدة عوامل رئيسية.
فأولا، من المرجح أن تستمر المشاكل في الدول المتقدمة ــ من تباطؤ النمو الاقتصادي إلى عدم اليقين السياسي ــ وهو ما من شأنه أن يحد من النمو المحتمل في كل مكان لفترة طويلة. وفي هذا السياق، لا ينبغي للدول النامية أن تستسلم لإغراء محاولة تعزيز الطلب من خلال سبل غير مستدامة، مثل تكديس الديون المفرطة.
بدلا من ذلك، يتعين على الدول النامية، وخاصة تلك التي تمر بمراحل مبكرة من التنمية الاقتصادية، أن تعمل على إيجاد أسواق خارجية جديدة لسلعها، من خلال تعظيم الفرص التجارية مع نظيراتها في العالَم النامي، والتي تتمتع العديد منها بقوة شرائية كبيرة. ورغم أن هذا الطلب لن يعوض بكل تأكيد عن الانخفاض في الطلب في الدول المتقدمة بشكل كامل، فمن الممكن أن يساعد في تخفيف قوة الضربة.
ثانيا، يظل الاستثمار العام والخاص يمثل محركا قويا للنمو. وفي الاقتصادات ذات القدرة الإنتاجية الزائدة، من الممكن أن يحقق الاستثمار المستهدف فائدة مزدوجة، بتوليد الطلب في الأمد القصير وتعزيز النمو والإنتاجية بعد ذلك. ونظرا لهذا يصبح من الواجب الحد من النقص في الاستثمار الذي يَعِد بتحقيق عائدات اجتماعية وخاصة عالية، بل والقضاء عليه تماما.
ولابد من تمويل هذه الاستثمارات المعززة للنمو والإنتاجية في المقام الأول من المدخرات المحلية، وإن كان بعضها يمكن تمويله أيضا بالاستدانة. ومن الممكن تمويل الاستثمارات المستقرة الطويلة الأمد في البنية الأساسية، ولو جزئيا على الأقل، بالاستعانة بمؤسسات التنمية الدولية.
ثالثا، من الأهمية بمكان أن يُدار حساب رأس المال على النحو الذي يحمي ويعزز فرص النمو الاقتصادي الحقيقية. من الممكن أن تعمل التدفقات الضخمة من رؤوس الأموال من الدول حيث أسعار الفائدة منخفضة على دفع أسعار الصرف إلى الارتفاع بسهولة، وهو ما من شأنه أن يفرض ضغوطا قوية على الجزء القابل للتداول من الاقتصاد. وفي الوقت نفسه، يضيف احتمال انعكاس اتجاه تدفقات رأس المال إلى المخاطر، ويردع الاستثمار، ومن الممكن أن يتسبب في إحداث أزمات ائتمانية مفاجئة.
في هذا السياق، من الممكن أن تساعد ضوابط رأس المال المنتقاة والإدارة الحريصة للاحتياطي في تثبيت استقرار ميزان المدفوعات وضمان عدم تغير معدلات التبادل التجاري بسرعة أكبر من القدرة على التعويض عنها من خلال نمو الإنتاجية. والواقع أن الدول النامية الناجحة كانت تلاحق مثل هذه السياسات حتى قبل اندلاع الأزمة الاقتصادية العالمية.
رابعا، هناك احتياج إلى تبني نهج واقعي في التعامل مع الثورة الرقمية. فمن ناحية، ينبغي للدول النامية أن تدرك أن تعطيل النظم القائمة، برغم حدوثه بسرعة، لن يجعل نماذج النمو التي تطبقها عتيقة بين عشية وضحاها. ذلك أن استمرار نمو الصين وارتفاع دخول الأسر الصينية يعمل على خلق الفرص للاقتصادات الأقل دخلا في التصنيع المنخفض التكلفة.
ومن ناحية أخرى، يتعين على الدول النامية أن تقبل حتمية التغيرات الطارئة على نماذج النمو التي تطبقها بسبب التكنولوجيات الرقمية. وبدلا من النظر إلى هذه التغيرات باعتبارها تهديدا، ومحاولة مقاومتها، ينبغي للاقتصادات النامية أن تسعى إلى استباقها، من خلال تبني الإبداعات المعطلة للنظم القائمة. وهذا يعني الاستثمار في القدرات ــ المادية والبشرية ــ لدعم استخدام هذه الإبداعات.
وإلى جانب رفع مستوى التصنيع، ينبغي للدول النامية أن تستعد للتحول نحو الخدمات، وهو التحول الذي سوف تخضع له حتما مع ارتفاع الدخول (وإن كان من الصعب التكهن بتوقيت دقيق). كما ينبغي لها أن تبحث عن سبل لاستغلال الفرص المتاحة لتعزيز تجارتها في الخدمات، تماما كما فعلت الهند والفلبين.
خامسا، ليس من الممكن تجاهل توزيع المكاسب الناجمة عن النمو الاقتصادي. فقد حاولت الاقتصادات المتقدمة هذا، وكانت النتيجة ارتفاع الاستقطاب السياسي، واشتداد المشاعر المناهضة للمؤسسة، وتراجع الترابط السياسي، وضعف التماسك الاجتماعي. وفي بيئة تتسم بانخفاض النمو، بشكل خاص، لا تملك الدول النامية ترف ارتكاب نفس الخطأ.
سادسا، من الأهمية بمكان إنشاء أنماط النمو المستدام في مرحلة مبكرة. والواقع أن النهج "الأخضر" لن يحفز النمو الإضافي فحسب؛ بل ومن المرجح أيضا أن يزيد من جودة النمو، ناهيك عن جودة حياة الناس العاديين. وسوف يؤدي فضلا عن ذلك إلى خلق اقتصاد أكثر مرونة وصمودا في الأمد البعيد.
أخيرا، تشكل أنشطة الأعمال أهمية حيوية لترجمة الإمكانات الاقتصادية إلى واقع ملموس. ولا يمكن استبعاد السياسات الداعمة لمثل هذه الأنشطة، من خلال إزالة العقبات التي تحول دون خلق أعمال جديدة وتعزيز فرص التمويل، من استراتيجيات النمو. ومن المؤكد أن فتح القنوات لتدفق المعلومات والأفكار والخبرات والمواهب من الخارج يساعد في تعزيز هذه الجهود.
ربما لا تتحكم الاقتصادات النامية بأي قدر يُذكَر في الرياح المعاكسة التي تواجهها اليوم؛ ولكن هذا لا يعني أنها عاجزة. فالكثير يمكن القيام به، ليس فقط للحفاظ على النمو المعتدل، بل وأيضا لضمان مستقبل أكثر ازدهارا وقدرة على الصمود.

*حائز على جائزة نوبل في علوم الاقتصاد.
خاص بـ "الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.