النواب: كلالة اللغة ودلالاتها..!

لا تعميم، بطبيعة الحال، لكن الذي استمع إلى كلمات بعض النواب في الأيام الأخيرة، لا بد أن يكون قد لاحظ الافتقار الواضح إلى واحدة على الأقل من مهارات الاتصال الأساسية: القراءة. ولا أتحدث عن القراءة بمعنى استبطان النص، وإنما القراءة الجهرية الآلية للنص فحسب. وقد "قرأ" النواب المعنيّون نصوصاً مكتوبة مسبقاً، وبعضها مطبوعة –كما ظهرت على شاشات التلفزة. لكن قراءتهم كانت ركيكة تماماً ومليئة بالأخطاء القواعدية. وإذا كان المرء ليخطئ في اللغة وهو يرتجل، فإن بالوسع نظرياً تجنب الخطأ بالتمرن على قراءة النص، وربما الاستعانَة بأحد يشكله له. وإذا لم يستطع، فالعاميّة.اضافة اعلان
قد يقترح أحد أن هذه المسألة ليست مهمّة، وأن المهمّ هو ما ينطوي عليه أهاب النائب من عظائم الأفكار. لكنّ مهنة السياسي تدور كلها تقريباً حول اللغة والتعبير. وإذا كانت لدى أحدٍ أفكار كبيرة حقاً، لكنه لا يستطيع أن يوصلها بلغة مفهومة ومقنعة، فإنها ستكون بلا معنى –ببساطة لأننا لن نسمعها. ويعبر عن هذه الفكرة أفضل ما يكون نيل كورليت، رئيس إعلام اللجنة الليبرالية والديمقراطية في البرلمان الأوروبي، الذي كتب:
"التواصل هو عُملة السياسة. السياسيون يتداولون بالخطاب والحجة، والتصريحات العامة والخطابات، والنشرات والبيانات. والطريقة التي يعبرون بها عن أنفسهم تحدد من هم وما إذا كانوا سينجحون في مهنتهم أم لا. الصمت بالنسبة للسياسي هو بمثل فائدة صاحب المتجر الذي لا يفتح متجره أبداً".
بالنسبة للحكومات، تشكل اللغة أداة سيطرة وتوجيه وإدارة. وهي وسيلة إطلاع مواطنيها على سياساتها وفكرها. والخطاب، كما هو معروف، من أقوى أدوات السلطة. وفي كتابه "خطاب السلطة الإعلامي"، يكتب الدكتور محمود عكاشة:" توجد علاقة قوية بين اللغة والسياسة، فاللغة لسان السياسة والقناة التي تحمل أفكارها وتحقق مقاصدها في الشعب، وهي من أهم وسائل التأثير الجماهيري؛ فاللغة بمنزلة سلطة أخرى يستخدمها أصحاب القرار في قمع الوجدان الجماهيري والهيمنة عليه...".
في المقابل، إذا كان النواب ينوبون عن الشعب، كما هو تعريفهم، فإنهم ينبغي أن يمتلكوا الأدوات لإنتاج خطاب لا يقل قوة. وإذا كان النواب بلا لغة، فإنهم بلا سُلطة -إلا إذا لم يكن النائب ينتسب إلى المشتغلين بالسياسة، أو كانت وظيفة البرلمانات ليست جزءاً حقيقياً من الحراك السياسي! وفي الحقيقة، قد يكون الأمر كذلك بطريقتين: إذا كانت البرلمانات تكويناً تكميلياً لا يُراد أن يكون له عمل سياسي مؤثر؛ وإذا كان النائب يقصد النيابة لتعزيز مصالحه الشخصية، أو "برستيج" المنصب في المقام الأول، من دون أن تكون لديه خلفيات أو اهتمامات جديّة بالعمل السياسي كشغف ومهمة عملية أو أخلاقية. وفي هاتين الحالتين، لا بأس بأن تكون اللغة ثانوية، مثلومة ولا يُعتد بها أصلاً.
أما أن يكون النواب لسان الشعب، الذين يُنطقونه ويتحدثون باسمهم، فإن الناس يستحقون أن يُمنحوا لساناً فصيحاً يستطيع صياغة خطاب صالح للتفاوض مع خطاب السلطة والرد عليه. وإذا مُنحوا أقل من هذا الحق، فذلك غمط كبير لحقهم واستهانة بصوتهم. وسوف تحدد طريقة تشكيل البرلمانات وطرق ودوافع انضمام أعضائها إليها نبرة ومستوى الصوت الذي يُسمح للناس بالتعبير به.
النائب هو شخص سياسي بالضرورة. ولذلك تكون العملة التي يتداول بها هي اللغة. لكن الآليات المختلة تسمح بصعود أناس لاسياسيين إلى هذا المنتدى. وسوف يحتاج البعض فقط إلى الثروة والعشيرة ليكون هناك، فيحجز مكاناً لَم يُخلق له على حساب غيره. وتمكن بسهولة ملاحظة أن النواب المسيسين الذين تقدمهم أحزاب أو أطر يمتلكون غالباً لغة أفضل وخطاباً أكثر تساوقاً. لكن جماع أمر الفصيح والعييّ هو الذي يصوغ اللغة النهائية للبرلمانات، التي تناظِر –أو تهِن أمام- خطاب الحكومات.
لذلك اللغة مهمة، باعتبارها عُملة السياسي. وإذا ظهر العيّ اللغوي بوضوح في برلمان، فهو أدعى إلى إعادة تأمل الجدوى والآليّات. ولعل في اللغة –التي لا يمكن إخفاء عيبها-  مدعاة إلى مراجعة أسس أهلية النواب والآليات التي توصلهم إلى هناك بهذه المواصفات، وإدارة العملية بطريقة تُحيِّد الأُميّة السياسية في الخطاب الشعبي، وتعطي الناس حقهم في التعبير بلسان أفصح وأكثر إقناعاً.