‘‘الهاشمي الشمالي‘‘.. مخالب الفقر تنهش أسرا عديدة - فيديو

جانب من مطبخ أرملة فقيرة تعتاش على معونات ضئيلة في المنطقة-(تصوير: ساهر قدارة)
جانب من مطبخ أرملة فقيرة تعتاش على معونات ضئيلة في المنطقة-(تصوير: ساهر قدارة)

 

حنان الكسواني

عمان - لم يعلم سكان حي شعبي في منطقة الهاشمي الشمالي أن رائحة كريهة منبعثة من منزل مريض نفسي هي رائحة جسد والده المتعفن في غرفة معتمة تعشش على جدرانها عناكب وحشرات زاحفة.
تفاجأ جيران المريض الخمسيني حسن الذي تعرض لسلسلة صدمات نفسية متتالية، بأن إدراكه لحقيقة الموت غابت منذ وفاة شقيقه وأولاده في حادث سير، حولته من إنسان يعمل في عالم البرمجيات التقنية في إحدى الشركات الخاصة، إلى عالم خارج البرمجيات العقلية كلها.
وساهم الجيران بإخراج جثة والده ومواراتها التراب، وتهوية منزله، بعد أن هجرته زوجته وأولاده الثلاثة من دون علاج أو دعم نفسي، وتركوه وحيدا يصارع مرضا قابلا للشفاء، منذ عشرة أعوام حتى الآن.
وتحمل الملقب بأبي عبدالله مسؤولية والديه الطاعنين بالسن، فكانوا يقتاتون من حشائش الأرض، عند الجوع، وببعض أطباق يجود عليهم بها جيران، وطرود خير رمضانية يوزعها عليهم محسنون من أهل الخير.
وكانت "الغد" محظوظة عندما استجاب المريض حسن لدعوتنا وسمح لنا بزيارته، إذ يتحكم مزاجه بفتح باب منزله للعالم الخارجي، لترصد معاناة "رجل الكهف" كشاهد على ضعف الترابط المجتمعي، وتراجع مستوى تقديم الرعاية الصحية للمرضى النفسيين.
بمظهره الخارجي الغريب وملابسه الرثة القذرة، وجواربه الممزقة التي التصقت بقدميه، وهو غير مدرك أنه حافي القدمين، يتحدث حسن لـ"الغد"عن أوضاعه المعيشية بكبرياء، وعن "غذائه المتوفر باستمرار"، حسب ما يوهم به الآخرين.
غير أن منزله المهجور خال من الكهرباء والماء، وحتى ثلاجته أو ما تبقى منها، تحولت إلى خزانة يعتقد أنها تحفظ طعامه من كسرات خبز جافة مبعثرة، وزجاجات ممتلئة بمياه غير صالحة للشرب.
توقف الزمن عنده منذ سنين، فلم يعد يدرك أن والديه اختارهما الباري إلى جواره منذ سنتين، وبدأ يحدثنا متثاقلا، بأنه يعمل كل يوم بيومه ليشتري طعامه وسجائره (سبارس)، لكن الحقيقه أنه "لا يملك أي وظيفة تدر عليه دخلا، ولا أدنى مقومات الحياة الكريمة التي تطمح الى تحقيقها برامج حقوق الإنسان شبه المعدومة في محيطه.
في وضح النهار، تتسلل أشعة الشمس من ثقوب "حرامات" المريض حسن المنشورة على حبل غسيل، إلى باحة منزله الصغيرة، لتوثق مأساه شاب كل ما يحتاجه هو "دمج وتأهيل مجتمعي"، حسب خبير البرمجيات اللغوية والعصبية جهاد إبراهيم، الذي اقترح أن "تتعاون جهات رسمية وجمعيات خيرية لتزويده بالطعام والشراب، وتهتم بنظافته الشخصية، وتعمل على إصلاح منزله".
وأكد إبراهيم أن المريض حسن "لن يحتاج إلى ادوية نفسية بل إلى علاج نفسي، عن طريق إعادة تشكيل اللاوعي عنده، وإدخال توكيدات إيجابية جديدة تحل محل الروابط السلبية التي تشكلت نتيجة مروره بصدمات نفسية متتالية".
والواقع أن حسن كان "متعلما ومثقفا وميسور الحال"، وفق إبراهيم، الذي أكد أن "إعادة دمجه في المجتمع فكره ناجحة"، مقترحا "تشجيع مجموعة شباب متطوعين على تحسين واقع حسن النفسي والبيئي".
تحديات تنموية على فوهة بركان
يغلف منطقة الهاشمي الشمالي مزيج سكاني من جنسيات أردنية وعربية، تطفو مشاكلهم فوق فوهة بركان، من فقر مدقع وبرنامج تعليم وصحي وببيئي هش، وقد يساهم في انفجاره استمرار هجرات من بلدان مجاورة أرهقتها حروب وصراعات.
وثمة مدارس حكومية مستأجرة قديمة، منها ما هو على قمة جبل، ويهرول طلابها على عتبات درج طويل قديم يستند إلى "دربزين" أزرق يتكئ علية طلبة الصفوف الابتدائية ضمن نظام الفترتين، في مدرسة لبابة بنت الحارث الابتدائية.
وحتى طلبتها تتقطع أنفاسهم ويلهثون إلى أن يصلوا إلى صفوفهم المزدحمة، وسط تخوفات أهالي المنطقة من سقوط أولادهم عن حافة الجبل إلى الأرض.
وأشار سكان من المنطقة في حديثهم لـ"الغد"، إلى إمكانية توسيع مدرسة سفانة بنت حاتم الطائي الابتدائية للبنات، عن طريق بناء جديد في ساحتها الخارجية لتحل مشكلة الضغط الطلابي بصفوفها، بدل أن يمتلئ الصف الواحد بـ50 طالبا، ما أثر على جودة التعليم وتسرب الطلبة، وانتشار "العنف بين بعض أسر منطقة الهاشمي" التي يزيد سكانها على 120 ألف مواطن.
بدوره، أكد نائب المنطقة محمد البرايسة لـ"الغد"، أن وزارة التربية والتعليم رصدت مؤخرا موازنة لمشروع توسعة مدرسة سفانة في الساحة الخلفية، في خطوة لحل مشكلة الاكتظاظ الطلابي داخل الصفوف.
واعتبر أن "دور أغلب الجمعيات الخيرية بات شكليا وليس فاعلا لتبني حلول تنموية حقيقية تخدم المنطقة وسكانها.  
رهنت جرة الغاز لتسد جوعها
"أقسم بالله أني رهنت جرة الغاز حتى آكل لقمة وأروح على مركز الحسين أتعالج، ويا ريتني ما رحت، لأنهم حكولي بأن السرطان أكل جسمي وبستنى الموت بأي وقت يجيني".. بحرقة شديدة تعبر الستينية غالية عن مأساتها بعد أن تسلل الفقر والعوز والمرض إلى حياتها منذ وفاة زوجها.
والحقيقة أن المواطنة غالية لم تكن "غالية" على الحكومة ونواب منطقتها، حتى إن أغلب جيرانها في سفح الهاشمي، لم يساندوها في قوتها أو دعمها نفسيا حتى نهش السرطان جسدها، بل إن طبيبها في مستشفى البشير الحكومي "لم يبلغها عن طبيعة مرضها"، بحسب قولها.
وبعد مضي أربعة أعوام بلا علاج بدأت كتل ضخمة تبرز في رقبتها وفكها، وانتشر المرض الخبيث حتى تسلل إلى أغلب أعضاء جسمها النحيل، الذي لن يتحمل جرعات علاج كيمائية بعد الآن.
وتملأ صرخات الألم والحسرة أرجاء غرفة غالية الصغيرة الفارغة إلا من قطعة سجاد صغيرة مهترئة وفرشة  واحدة ترمي جسدها عليها بعد جولة على بيوت عمان الغربية، باحثة عن عمل يسد إيجار منزلها الشهري ـ( 100 دينار)، فيما تعجز ميزانيتها البالغة 50 دينارا، والمتأتية من صندوق المعونه الوطنية أن تؤمن لها قوت يومها.
وبين فترة وأخرى، تزور غالية قبر والدتها ووالدها وإخوتها في مقبرة الهاشمي، ودموعها تملأ وجهها كلما باحت لهم عن مرضها وجوعها وحاجتها لمن يقف إلى جانبها ويساندها، قائلة: "ربي الذي خلقني أعلم بوجعي وهو من يتولى أمري، لكني بنقهر من سؤال الناس عن رغيف خبز وسكر وشاي يبلل لقمتي ويسكن جوعي".
غاز صغير بلا جرة، ومدفأة كاز قديمة، وصحون طعام فارغة إلا من نقوش عشوائية على أطرافها، هو كل ما تقتنيه المواطنة "غالية" في زاوية مطبخها الملتصق بجدار دورة مياه بدائية.
وقد وفرت المتطوعة سوزان رضوان، عضو الفريق التطوعي العامل مع جمعية مجلس الكنائس للشرق الأدنى/ فرع الهاشمي الشمالي، جرة غاز قامت "غالية" برهنها بعشرين دينارا حتى تتمكن من الاستمرار في حياتها اليومية.
ولم تتمكن غالية من فك رهن جرتها الفارغة لممارسة طقوسها بإعداد "كاسة شاي"، معربة عن أملها بشراء مدفأة غاز بدلا من الكاز، لأن أطباءها منعوها من استشناق رائحة الكاز التي تتسبب لها بـ"ضيق تنفس شديد يزيد من أوجاعها".
وقالت المتطوعة سوزان التي تسعى من خلال جمعيتها، إلى تحسين أوضاع الفقراء والمهمشين في المنطقة لـ"الغد"، بأنه "لا معيل لغالية وابنتها المطلقة الغزاوية التي تقطن معها"، مضيفة أن "أهل الخير يتفقدونها بين فترة وأخرى، لكنها بحاجة إلى تأهيل نفسي وصحي، وإلى دخل ثابت يكفيها ذل السؤال".
واقع اجتماعي واقتصادي وبيئي مرير
"مسؤوليتي ، مجتمعي، مستقبلي".. كلمات مخطوطة بخط عريض على جدران مدرسة وكالة الغوث التي تستقبل مئات الطلاب من مناطق الهاشمي الشمالي والجنوبي والمحطة، في خطوة منها لتخفيف العبء الدراسي عن كاهل المدارس الحكومية، غير أن هذه المنطقة، حسب قول سكانها، "تحيطها نفايات تحول المنطقة إلى بؤر بيئية ضارة".
"واقع اجتماعي واقتصادي مرير".. بهذه  الكلمات عبر رئيس جمعية إصلاح وتأهيل الأسرة في منطقة  الهاشمي الشمالي جهاد زغاتيت لـ"الغد"، عن الواقع المعيشي لأسر تنتظر إجراءات إصلاحية لمشكلتي الفقر والبطالة بشكل جذري.
ويرى الزغاتيت أن الدولة "لا تستطيع وحدها أن تجد حلا لمشاكل الفقر في الأردن، بل يحتاج الأمر إلى تكافل مجتمع بأكمله، لوضع آلية واضحة للحد من مشكلات هذه الأسر المعدمة".
وأضاف أن "الأوضاع الاقتصادية باتت صعبة عقب ذوبان الطبقة الوسطى وتحول أغلبها إلى طبقة فقر، ما ساعد في انتشار مشاكل اجتماعية في المنطقة، أهمها آفة المخدرات التي غيبت عقول شباب يافعين وعاطلين عن العمل".
وتابع: "وسط ذلك، تجد مبادرات مجتمعية ناجحة للنهوض بهذه التحديات وتصويبها، بالاشتراك مع متطوعين، لمساعدة الأسر الفقيرة، وتقوية أواصر الترابط الاجتماعي، ومنها مبادرة "اعرف جارك"، التي تم إطلاقها بعد دراسة التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي لحقت مؤخرا بالمنطقة".
يشار إلى أن جلاله الملكة رانيا العبدالله اطلعت العام الماضي على برامج جمعية سنابل الخير للتنمية الاجتماعية المقدمة للسكان في منطقة الهاشمي الشمالي، والتي تشمل تمكين المرأة، والشباب، والتعليم للطلبة المتسربين ولأطفال اللاجئين.
ومن ضمن الأنشطة المجتمعية، أيضا، برنامج "مكاني"، الذي أطلق العام 2014، وينفذ بالشراكة مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونسيف"، ومؤسسة نهر الأردن، ويستهدف تدريب الأطفال على أنشطة نفسية اجتماعية ومهارات حياتية، وتوفير التعليم للأطفال السوريين غير الملتحقين بالتعليم النظامي، وللمتسربين من المدارس لإعادة إلحاقهم بها.
معونة وطنية متواضعة
"لن يتم رفع المخصصات المالية لمنتفعي صندوق المعونة مجددا، رغم أنها غير كافية"، حسب ما أكدته مدير عام صندوق المعونة الوطنية بسمة اسحاقات، معتبرة  أن "ارتفاع  موازنة الصندوق خلال السنوات العشر الماضية يعد مؤشرا حقيقيا على مكافحة الفقر باعتباره أولوية وطنية".
يشار إلى أن موازنة الصندوق ارتفعت العام الحالي إلى نحو 13 مليون دينار، "لضمان تحسين الظروف المعيشية للأسر المنتفعة" من الصندوق، فيما ارتفع الحد الأعلى للمعونة من 180- 200 دينار، وفق اسحاقات.
ولا يختلف حال غالية كثيرا عن الستينية أم ربيع المصرية (اسم مستعار)، التي تطعم تسعة أطفال وشباب، ثلاثة منهم أولاد شقيقتها التي توفيت في مستشفى البشير الحكومي بعد ولادتها طفلتها الصغيرة.
وتعاني أم ربيع من المرض وضيق الحال، وهي عاشت حياتها في بلدها الثاني منذ 36 عاما، وتعمل حاليا مرافقة لمرضى طاعنين في السن في بيوت عمانية، وتواصل الليل بالنهار بلا كلل أو تعب، كحال مئات النساء اللواتي يسعين لتحسين أوضاعهن المعيشية.
ورغم مرض أم ربيع وعفة نفسها، لكنها لم تأل جهدا لتوفير أي دخل شهري لتحصيل قوت أولادها الأيتام وجمع ملابس مستعملة لهم، خصوصا أنهم يعيشون جميعا في منزل إيجاره الشهري 120 دينارا.
ولم تحظ أم ربيع بأي معونة فورية من صندوق المعونة الوطنية، كونها لا تحمل رقما وطنيا، وليست لاجئة عراقية أو سورية يدرج اسمها بين ملفات منظمات إغاثة دولية أو جمعيات خيرية عربية وأردنية.
وفي سياق ذلك، لم يلغ الصندوق أي معونة فورية، بل تم تنظيمها لتصل المخصصات المالية إلى مستحقيها، وفق قول إسحاقات لـ"الغد"، مؤكدة أن الصندوق "كشف خللا لا بد من تصويبه".
أما اللاجئة السورية أم مازن، فما تزال تحلم بالعودة إلى مدينتها حمص، وإلى مزارع  أبقار كان يديرها زوجها الذي غادرها قبل أربعة أعوام، بحثا عن الأمن والأمان لأطفاله الخمسة، أكبرهم في الثامنة من العمر، وأصغرهم 14 شهرا، وجميعهم بحاجة إلى كسوه شتاء وأغطية دافئة، حسب قولها.
وانضم الأربعيني أبو مازن إلى قائمة العاطلين عن العمل، بعد أن تعرض إلى جلطة قلبية تسببت له بعجز صحي دائم.
عموما، لا تقتصر البطالة على أبو مازن وحده، بل تعد أكبر معضلة تواجه أهالي منطقة الهاشمي، خصوصا شبابها الذين بدأوا بكسر "ثقافة العيب" بقبولهم أي عمل قد يحسن من مستواهم المعيشي. 

اضافة اعلان

[email protected]