الهبّة في فلسطين جاءت من دون تخطيط

محمد الشواهين

منذ قيام بعض المجموعات اليهودية المتطرفة باقتحام المسجد الأقصى وباحاته بطريقة استفزازية، بدأت بوادر انتفاضة من داخل الحرم نفسه، كردة فعل من المصلين والمرابطين الذين أخذتهم الحمية الوطنية والدينية على حد سواء. ثم ما لبثت أن امتدت إلى خارج الأسوار، بسبب تقاعس الحكومة الإسرائيلية التي لم تضع حدا لتصرفات المستوطنين الهمجية. وفي الوقت نفسه، لم تتوقع سلطات الاحتلال أن الأمور ستتفاقم وتتصاعد إلى هذه الدرجة الخطيرة من العنف والعنف المضاد.اضافة اعلان
وفي الوقت الذي أشار فيه مراقبون إلى خطورة تلك الاقتحامات، فإنهم نوهوا غير مرة أن الأمور ستزداد سوءا؛ ليس في القدس وحدها، بل ستمتد الهبة الشعبية لتشمل الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة وداخل الخط الأخضر. وهذا ما حدث بوتيرة متسارعة، ومن دون تخطيط مسبق.
واقع الحال الآن، كما أراه عن قرب، هو أنه إن لم تكن هذه انتفاضة بالمعنى الواسع، فإنها هبة شعبية تختلف عن الانتفاضة الثانية التي قامت قبل خمسة عشر عاما، وتسببت في اجتياح الضفة الغربية، وسقوط عدد كبير من الشهداء والجرحى، كما ضاقت السجون حينها بالأسرى الفلسطينيين في طول البلاد وعرضها.
المتابعون لما يجري على الأرض الفلسطينية اليوم، والمحللون للأوضاع القائمة، لا يتوقعون أن تصل الأمور إلى مستوى "العسكرة"؛ بمعنى استعمال السلاح على مستوى واسع، كما حصل في انتفاضة الأقصى، إلا بحالات فردية. إذ إن القيادة الفلسطينية الحالية، على ما يبدو، قد استخلصت الكثير من العبر مما جرى سابقا، وهي تتصرف بحكمة، فلا تمنع ولا تترك الحبل على الغارب.
والحكومة الإسرائيلية، في اعتقادي، أخطأت خطأ فادحا بالسماح للمجموعات المتطرفة بأن تعيث فسادا في الحرم القدسي الشريف والقدس عموما والأراضي المحتلة. وعلى الرغم من السلاح الذي بحوزة هذه المجموعات، إلا أنها في واقع الأمر أجبن من أن تحمي نفسها من الهجمات "المرتدة"، إذا جاز التعبير، للفلسطينيين المتسلحين بالحجارة والعصي والسكاكين، ولولا حماية الشرطة والجيش الإسرائيليين لبني جلدتهم، إزاء بسالة منقطعة النظير من شبان فلسطينيين صغار السن لم يبلغوا الحلم بعد، وبنات بعمر الورود يقاومن جنبا الى جنب مع إخوانهن دفاعاً عن المقدسات والحرمات، لما مكث المستوطنون يوما واحدا داخل مستوطناتهم المقامة على أراضي الفلسطينيين.
على ضوء هذه الأوضاع المتردية، فإن الحكومة الإسرائيلية أدركت الآن، بلا أدنى ريب، الخسائر التي لحقت بها، لاسيما في حقل الاقتصاد، جراء تكلفة هذا الاستنفار العسكري، كما جراء النقص الحاد في أعداد السياح القادمين إلى إسرائيل عامة والقدس خاصة، والذين ألغوا حجوزاتهم منذ اندلاع الهبة الشعبية الفلسطينية، ناهيك عن قطاع الإنشاءات والعقار شبه المتوقف بسبب عدم تمكن الأيدي العاملة الفلسطينية من الدخول إلى إسرائيل بسبب حالة الفوضى وانعدام الأمن.
أما الاقتصاد الفلسطيني، فليس بمعزل عما يجري على الساحة. وليس ثمة وجه مقارنة بالاقتصاد الإسرائيلي، وأخص هنا قطاعا واسعا من العمالة التي تدخل يوميا بعشرات الآلاف إلى داخل الخط الأخضر للعمل في المنشآت والمشاريع الإسرائيلية؛ من عقارات وبنية تحتية وسواها، وبما ساهم في حل نسبة كبيرة من مشكلة البطالة في صفوف العمالة الفلسطينية الماهرة وغير الماهرة، قبل انفجار الغضبة الشعبية، وأوجد سيولة نقدية في السوق الفلسطينية، زادت حركة التجارة والشراء، وأدت إلى انتعاش واضح في الاقتصاد الفلسطيني المتهالك، الذي يعتمد إلى حد كبير على المساعدات والمنح الخارجية.
لذا، يرى المراقبون ضرورة تدخل الولايات المتحدة و"الرباعية الدولية"، وبعض دول أوروبا وروسيا، وتفعيل دور المؤسسات الأممية ذات العلاقة، قبل فوات الأوان، وذلك من أجل تحريك عملية السلام، واستئناف مفاوضات الوضع النهائي المتوقفة منذ أكثر من عامين، وذلك بالضغط الفعلي على حكومة إسرائيل، لاحترام قوانين وقرارات الشرعية الدولية، وكبح جماح المستوطنين المتطرفين، وإبداء النوايا الطيبة للتوصل إلى حل نهائي يقوم على أساس الدولتين.