الهندي "كبير": شاعر بقامة طاغور

باريس- كثيرون في عالمنا العربي تمكنوا من قراءة شاعر الهند العظيم طاغور عبر ترجمات عربية تمت عن طريق الترجمة الفرنسية التي أنجزها الكاتب الفرنسي أندريه جيد لأبرز دواوينه في أوائل القرن الماضي. لكن اهتمام جيد بالشعر الهندي لم ينحصر في طاغور بل طاول شاعرا هنديا آخر لا يقل أهمية عن مواطنه ويُعرف تحت اسم "كبير".اضافة اعلان
هذا ما يتجلّى لنا في الديوان الصادر حديثا عن دار نشر "غاليمار" الباريسية بعنوان "ناي اللا متناهي" الذي يضم 22 قصيدة لهذا الشاعر ترجمها جيد عام 1916 وبقيت مخفية داخل أرشيفه قبل أن يتم اكتشافها مؤخّرا بالصُدفة.
وبما أن هذا الكاتب لم يكن يتقن أي لغة من لغات الهند الكثيرة، فقد اعتمد في مهمّته على الترجمة الإنجليزية التي وضعها صديقه طاغور لهذه القصائد. وهو ما دفع بدار "غاليمار" إلى نشر هذه الترجمة أيضا داخل الديوان.
وتجدر الإشارة أولا إلى أن كبيرًا (1440 م ـ 1518م) يتمتّع بشهرةٍ واسعة في الهند منذ خمسة قرون، ليس باعتباره شاعرا فحسب بل باعتباره حكيما وقائدا روحيا أيضا يبلغ عدد أتباعه اليوم عدّة ملايين، معظمهم يوجد في ولاية تشهاتيسغار وسط الهند حيث وُلد وعاش الجزء الأكبر من حياته، وفي مدينة مجاهر بشمال البلاد حيث توفي.
ولا يعرف سوى القليل عن حياته التي نسجت حولها أساطير كثيرة. لكن الأكيد هو أنه مارس مهنة النسج وكان يمضي معظم وقته في حانوته بمدينة بنارس. ورغم أنه هندوسي الولادة، اعتنق كبير الديانة الإسلامية، كما يشهد على ذلك اسمه ومضمون قصائده.
ومع أن بعض المختصين شككوا في هذه النقطة من منطلق المراجع الهندوسية الحاضرة في أقواله، فإن إيمانه بإلهٍ واحد وتصوّفه العميق يبددان هذا الشك. ونظرا لشمولية فكره، دُمجت بعض النصوص المنسوبة إليه بالكتاب المقدّس لمذهب السيخ، واعتبر مؤسّس هذا المذهب، بنجابي ناناك، نفسه تلميذا لكبير.
وما نعرفه عن كبير أيضا هو أنه تخلّى تدريجيا عن مهنة النسج وانطلق في التبشير بالله وبالحب الإلهي فتحوّل حانوته إلى مكان تجمّعٍ وصلاة وتعليم. وبما أنه كان بعيدا كل البُعد عن أي عقائدية، كان يهزأ دائما من المتزمّتين مهما كان انتماؤهم الديني. وفي البداية، اعتبره الناس مجنونًا ثم متنوّرًا قبل أن تُسبّب حرّية تفكيره له مشاكل جدّية. إذ سيندّد أعداؤه بتعاليمه أمام الإمبراطور سيكاندر الذي سيضطهده ثم يحكم عليه بالإعدام فيُضطرّ إلى مغادرة بنارس.
ومنذ تلك الفترة، عاش كبير حياة تيهٍ وتنسّك مبشّرا بالله الواحد حيثما حلّ فكثر عدد أتباعه حتى ولو لم يفهم جميعهم عُمق فكره. وبعد وفاته، تعارك تلاميذه وبعض الأمراء على جثمانه وذاكرته وتم تشييد ضريحٍ له في مدينة مجاهر تردّد عليه المسلمون والهندوسيون قبل أن تقع صدامات بين الطرفَين اضطرّ الهندوسيون على أثرها إلى تشييد ضريحٍ آخر له إلى جانب الأوّل.
ومثل حياته، تتميّز أعمال كبير الشعرية بجانبٍ تكهّني وأسطوري لسببٍ بسيط هو أنه لم يكتب في حياته سطرا واحدا بل اكتفى بنقل تعاليمه وأقواله وأناشيده (أو قصائده) شفهيا إلى المستمعين إليه ولم يسع أبدا إلى لعب دور القائد الروحي.
وفور قراءتها، نستشفّ هذا الجانب الشفهي في النصوص الغزيرة المنسوبة إليه التي تملأ عشرات الكتب، وفقا إلى المؤرّخة شارلوت فودفيل. وقد خطّ هذه النصوص أتباع كبير أثناء استماعهم إليه، وبالتالي نجدها بلهجة الأفادي المستخدمة آنذاك في شمال الهند التي يتخلّلها الكثير من الكلمات العربية والفارسية.
وأشهر كتب كبير هو بدون شك ديوان "بيجاك" (الكلمة تعني "بذرة" و"مفتاح" معًا) الذي جمع نصوصه المدعو بجفان داس عام 1600م وتُرجم إلى لغات عديدة بينها الترجمة البنغالية التي وضعها كشيتي موهان سين في بداية القرن الماضي واعتمدها الشاعر طاغور لنقل مائة نصّ منها إلى اللغة الإنجليزية بمساعدة إيفلين أندرهيل.
ومن هذه المختارات، نقل أندريه جيد 22 نصّا إلى الفرنسية قبل أن تُقدِم مواطنته هنرييت ميرابو تورانس إلى ترجمتها كاملةً عام 1922. وتحتل هذه الترجمة الجزء الثاني من كتاب كبير الصادر حديثا.
وتغوص هذه النصوص بقارئها في قلب الهند خلال القرون الوسطى التي لا تبدو مختلفة كثيرا عن الهند اليوم، حيث المقدّس ما زال حاضرا في كل مكان، يلفّ بهالته مختلف جوانب الحياة اليومية ويشحن بقدسيته كل حركة أو كلمة. وما يشدّنا في هذه النصوص هو حيوية لغتها ومفرداتها وحس صاحبها الفكاهي الكبير وعدم اكتراثه للمؤسّسات والمحظّرات وحماسته الصوفية التي ترتقي بخطابه إلى قمة التجلّي الشعري والروحي. لكن حداثة كبير التي لم تفقد شيئا من نضارتها تكمن خصوصا في مسعاه الفريد الذي يتجاوز التفرقة بين الأديان ويجعلنا نحلم باتّحادٍ وأخوّة بين البشر في عالمٍ يمزّقه الحقد والمنافسة منذ فجر الخليقة.-(الجزيرة نت)