الواقعية في التعامل مع الترامبية

يوشكا فيشر*

برلين- قبل مرور ما يزيد على الشهر قليلاً منذ تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة، بات من الواضح أن رئاسته لن تأتي بأي خير. وللأسف الشديد، تبين أن المتشائمين كانوا محقين: فالأمور سيئة حقاً بقدر ما أكدوا أنها ستكون. والآن أصبح السيناريو الأسوأ هو السيناريو الأساسي. ويتعين علينا الآن أن ننحي جانباً أي أمل في أن تكون مطالب المنصب، أو الحقائق السياسية والاقتصادية، كافية لإقناع ترامب بالالتزام بمعايير السياسة الداخلية والخارجية. تتطلب الواقعية قبول حقيقة صارمة تدعو إلى التفكير الرصين. فعندما يُخَيَّر رئيس الولايات المتحدة الخامس والأربعين بين التمسك بدستور الولايات المتحدة -الذي يحد من سلطته من خلال الفصل بين السلطات- أو إسقاط ذلك الدستور، فسوف يختار إسقاطه على الأرجح. ومن الواضح أن إدارة ترامب تعتزم تنفيذ ما لا يقل عن تغيير النظام في واشنطن العاصمة.اضافة اعلان
عاجلاً أو عاجلاً، سوف يخلق الاحتكاك بين الرئيس والنظام الدستوري أزمة حادة من شأنها أن تزعزع أركان الولايات المتحدة، وربما تغير معالمها السياسية تماماً. والواقع أن هجمات ترامب المتواصلة على السلطة القضائية والصحافة -المؤسستين اللتين لا غنى عنهما لضمان المساءلة التنفيذية- لا تترك مجالا لأي تفسير آخر.
وحتى إذا كانت الغَلَبة للنظام الدستوري في أميركا في نهاية المطاف، فسوف تتسبب الفوضى الناشئة خلال رئاسة ترامب في إحداث أضرار دائمة. ولنتأمل هنا ما قد يحدث إذا وقعت هجمة إرهابية قاسية في الولايات المتحدة في هذا الوقت الذي يسوده الاضطراب. فهل تنزلق الولايات المتحدة إلى الاستبداد، على نحو مماثل لما حدث في تركيا؟ من المؤكد أننا نأمل عدم حدوث أمر كهذا، ولكنه احتمال حقيقي. على صعيد العلاقات الدولية، أُنقِذنا حتى الآن من تمزق مفاجئ في التحالفات القائمة وما يرتبط بها من التزامات. ولكن ما دام ترامب يلاحق استراتيجية "أميركا أولا" الانعزالية التي تقوم على تدابير الحماية، فسوف تظل هذه التحالفات والالتزامات عُرضة للخطر.
إن اندلاع أزمة دستورية في الولايات المتحدة، فضلاً عن حدوث نقلة نوعية من العولمة إلى تدابير الحماية والسياسات الأمنية الانعزالية الجديدة، يعني ضمنا تعطل النظام الدولي، في غياب أي نظام بديل في الأفق. وإذا سارت الأمور على ما يرام، فسوف تسود حالة من عدم الاستقرار؛ أما إذا ساءت الأمور فقد تصبح المواجهة أو حتى الصراع العسكري القاعدة.
وتظل العلاقة بين ترامب وروسيا ورئيسها فلاديمير بوتن غير واضحة -وإن لم تكن غامضة تماماً. وتفرض هذه الحالة المتواصلة من عدم اليقين حيرة شديدة على أوروبا الشرقية، التي لا يمكنها استبعاد احتمال التوفيق بين مصالح ترامب وبوتن وتنظيم مؤتمر عل غرار مؤتمر يالطا، وتقسيم أوروبا إلى مجالات نفوذ منفصلة.
وتتفاقم حالة عدم اليقين إزاء روسيا بفِعل ضوضاء غريبة -ومتواصلة- في الخلفية في إدارة ترامب. فقد عَرَض كل من نائب الرئيس مايك بنس، ووزير الخارجية ركس تيلرسون، ووزير الدفاع جيمس ماتيس الضمانات على حلف شمال الأطلسي وأوروبا الشرقية؛ واستقال من منصبه مستشار ترامب للأمن القومي مايكل فلين، الذي كان ودوداً مع روسيا. ومع هذا، فعندما يحيط مثل هذا القدر الكبير من الدخان بأي قضية، يكون الاحتمال الأرجح أن شيئاً ما يحترق.
في كل الأحوال، في وقت حيث يسعى ترامب إلى زعزعة النظام العالمي القائم، سوف تتحمل أوروبا وطأة الصدمات. فبعد الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا الغربية قادرة على تحقيق الازدهار استنادا إلى وعدين أميركيين كبيرين: الحماية العسكرية ضد الاتحاد السوفييتي والتجارة الحرة. كما لعبت الولايات المتحدة دورا رمزيا بالغ الأهمية بوصفها "منارة للحرية". ولكن الآن، بعد أن أصبحت أوروبا مهددة على نحو متزايد بالنزعة الرجعية الانتقامية لدى روسيا، فربما تحول هذا الدور الآن إلى ذكرى من الماضي بالفعل.
من ناحية أخرى، من الواضح أن الجراح العميقة التي ألحقها الاتحاد الأوروبي بنفسه جعلته أضعف من أن يتمكن من إيجاد بديل لوضعه الراهن المتداعي. وإذا تعثرت ترتيبات أوروبا الأمنية والاقتصادية، التي ظلت قائمة في فترة ما بعد الحرب، أو انهارت، كما يبدو من المرجح الآن، فسوف يصبح الأساس الذي استندت إليه أوروبا الحرة معيبا.
في هذه الحالة، سوف يكون السبب المباشر في الأرجح الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية في السابع من أيار (مايو). إذ أن فوز جبهة مارين لوبان الوطنية اليمينية المتطرفة من شأنه أن يُفضي إلى تفكك منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي. وسوف تعاني فرنسا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي من أضرار اقتصادية جسيمة، ومن المرجح أن يترتب على هذا اندلاع أزمة عالمية. وإذا خسرت مارين لوبان فسوف تنكسر موجة القومية الحالية، ولو بشكل مؤقت على الأقل، وهو ما من شأنه أن يعطي أوروبا فرصة ثانية.
إذا أتت هذه الفرصة، فلا ينبغي لنا أن نهدرها أبدا. فقد أصبح الاتحاد الأوروبي في حاجة ماسة إلى تطوير وسائل الدفاع عن نفسه ضد التهديدات الداخلية والخارجية، وتثبيت استقرار منطقة اليورو، وضمان الهدوء والعقلانية في المفاوضات المقبلة على الخروج البريطاني مع المملكة المتحدة. وأياً كانت التغيرات الأخرى، فسوف تظل مصالح المملكة المتحدة الجيوسياسية والأمنية بلا تغيير. فلن يبدل الخروج البريطاني حقيقة أن التعاون عنصر ضروري في الدفاع المشترك، ومكافحة الإرهاب، وحماية الحدود. لا ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يقبل أي شيء من شأنه أن يعرض دول الاتحاد الأوروبي المتبقية (27 دولة) للخطر. ولكن المفاوضات على الجانبين لا بد أن تحرص أيضاً على تجنب أي نتيجة ربما تسمم العلاقات بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى أجل غير مسمى. وكما تعلمنا من الخبرة والتجربة، فسوف تستمر الحياة، حتى بعد الطلاق. وسوف تظل مصالحنا المشتركة قائمة، والآن تتضمن هذه المصالح إدارة المخاطر التي يفرضها الرئيس الأميركي الجديد المشاكس.

*كان وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها. دخل السياسة الانتخابية بعد مشاركته في احتجاجات مناهضة للمؤسسة في الستينيات والسبعينيات، ولعب دوراً رئيسياً في تأسيس حزب الخضر الألماني وقاده لعقدين تقريباً.
*خاص بـ "الغد"، بالتعاون مع "بروجيكت سنديكيت".