الواقع المرير المجاور: الرواية البولندية ما بعد انهيار الشيوعية

Untitled-1
Untitled-1

مارتا فيغلرويتش*

ترجمة: موفق ملكاوي

اضافة اعلان

كنت في الخامسة عشرة عندما أدركت عائلتي أن جيراننا الجدد لا يستطيعون القراءة. كانوا عملوا في مزرعة مجتمعية خلال الحرب الباردة؛ بعد العام 1989 خصصوا بعض تلك الأراضي لزراعتها لصالحهم. عندما التقينا بهم في العام 2001 كانوا يبيعون الأرض قطعة إثر أخرى لمحترفين مثل والدي وغيره، والذين ارتفعت رواتبهم في ظل الرأسمالية إلى الحد الذي يمكنهم تحمل بناء منزل على مشارف المدينة. المزارعان السابقان – واللذان سأسميهما جان وماريا - قادا والدي عبر حقل مليء بالمستنقعات يريدان بيعه. جان قاس فدانا منه بخطواته الخاصة. عاد والدي في عطلة نهاية الأسبوع التالية مع العقد. قام جان وماريا بإلقاء نظرة موجزة عليه ووضعا X على الخطوط المنقطة التي أشارت إليها أمي. وبفضل الأموال التي جمعاها من والدي وآخرين، أقام جان وماريا شركة نقل بالشاحنات أفلست بعد عامين. نعلم أنه لأسباب ظرفية، فقط، فإن عائلتينا لم تتحدثا معا مرة أخرى إلا تبادل التحيات في محطة حافلات القرية.
عندما تعبر من ألمانيا إلى بولندا بقطار (إنترسيتي) أو عبر الطريق السريع التي بنيت حديثا برعاية الاتحاد الأوروبي، فإن المشهد بالكاد يبدو مختلفا. كل ما تراه هو أميال من الحقول والأشجار، وأحيانا لوحات إعلانية ضخمة. ولكن بمجرد الخروج من القطار، أو اتخاذ أحد المخارج من الطريق السريع، فسرعان ما ندرك أن بولندا ككل لم تتقدم إلى الرأسمالية بسرعة وبشكل متساو لما هو عليه الحال في الأراضي الغربية منها. تلاحظ أيضا أن مجالات النمو واليأس والرأسمالية والشيوعية المتحللة، هي قريبة من بعضها البعض: أنت تخطو من واحدة إلى أخرى على طريق يمتد بسلاسة. الحكومة اليمينية الشعبية التي تم تنصيبها حديثا في بولندا، والتي جاءت إلى السلطة من داخل هذه الجيوب الراكدة، ما هي إلا تنبيه واحد جديد لعدم المساواة هذه، وعلى الغضب والإحباط اللذين يتناميان بفضلها.
عدد من الكتاب البولنديين الشباب يهتمون لمصير الناس المحاصرين في هذه الجزر السوريالية من العزل الاجتماعي الاقتصادي. معظم هؤلاء الكتاب هم الآن في الأربعينيات أو الخمسينيات، وقد تركوا منذ فترة طويلة المواقف المناهضة للشيوعية التي أكسبت أسلافهم، مثل تشيزاو ميوش، شهرتهم القوية. فيليب سبرينجر، لوكاش أوربيتوسكي، وجوانا باتور هم ورثة، ليس فقط لصراعات الحرب الباردة، ولكن أيضا ورثة دفع بولندا المتسارع نحو الغرب والذي تولد بعد العام 1989. هم جيل قفز من العيش في الدولة البوليسية المغلقة إلى الحرية المطلقة في زيارة نيويورك وباريس، واكتشاف مدى ما يمكن أن تقدمه لهم عملتهم وتعليمهم في عصر ما بعد الاتحاد السوفيتي. كما أن جيلهم يشهد تزايدا في التفاوت الاقتصادي داخل بولندا نفسها، حيث أن بعض المهن - بل وبعض المآسي الفردية - تتكيف مع الرأسمالية بسهولة أكبر بكثير من غيرها، بحيث لا تستطيع الأيديولوجيات الشيوعية القديمة ولا الرأسمالية الجديدة حسابها أو التنبؤ بها. هذا الجيل من الكتاب، وبعد الخروج من التسمم المبكر بالرأسمالية، تبنى أساليب سردية تتسم بالعمق التاريخي والتأملي. فالخيال والواقع المرير يقدمان لهم وسيلة للتخبط في تناقضات الحالة الاقتصادية والثقافية لبلدهما.
الروايات البولندية المعاصرة الأخيرة تنطلق دائما من المدن الصغيرة التي كانت في طريقها إلى أن تصبح مدنا كبيرة: البلدات التي بدا أن لها مستقبلا رأسماليا مستداما ممكنا قبل أن تتحلل أحلام المستثمرين. داخل تلك الأماكن، يدمج الكتّاب هذه المؤامرات بين قناعات علم الاجتماع والحساسية الخيالية للتحري الأدبي، وأحيانا أيضا مع الأسطورة. ويكشف الرواة عن الجرائم الشنيعة، ولكنهم يقفون أيضا لتحري هذه الجرائم ضمن سياقاتها الاجتماعية والثقافية الأكبر. ويصرون على شيء مثل التجريبية، فقط من أجل توضيح مرحلة فشلها الدراماتيكي. سبرينجر، أوربيتوسكي، وباتور، وضعوا شخصياتهم، وتوسعوا نحو قرائهم، في موقف ضعيف كما لو أنه شخص يسقط في كابوس. يصرون على أن المدن الصغيرة يمكن أن تكون ظالمة بلا حدود، على الرغم من وضوح حيزها المكاني. والعمليات الاجتماعية والاقتصادية التي تجعل من هذه الأماكن راكدة لا تقل رعبا وواقعية عن كونها مقصورة على مساحة صغيرة جدا، ويمكن لمسافر مجهول أن يمر بها من دون أن يلاحظها.
"أرخبيل المدن، 2016" لفيليب سبرينغر، هو سلسلة من المقالات الانطباعية القصيرة حول عشرين مدينة ريفية، وكل واحدة منها فقدت مكانتها كعاصمة إقليمية في تسعينيات القرن الماضي، خلال سلسلة من الإصلاحات الحكومية المحلية. وقد تدفقت الكثير من الأموال إلى هذه المدن مباشرة بعد سقوط الشيوعية، ولكن هذه الاستثمارات توقفت عندما تم تخفيض المدن إداريا. سكانها يعيشون الآن وسط أنقاض المباني العامة التي تم البدء بتشيدها ولكنها لم تكتمل. مجموعات صغيرة من الفنانين تتردد على مراكز ثقافية مجتمعية لا يزورها أحد. يتجول رجال الأعمال المحليون وأصحاب المحلات التجارية حول الأكشاك النظيفة التي يتم الاحتفاظ بها بشكل لائق، ولكنها نادرا ما تدر عليهم أرباحا. هذه المدن كانت موجودة في كثير من الأحيان منذ العصور الوسطى، وسبرينجر يكتشف من خلال تفكيره أن في كل من تاريخها الطويل وإمكانية استمرارها، هناك حالة دائمة من التحلل البطيء المتقلب. وصف سبرينجر لهذه المدن على أنها أرخبيل يشير إلى أوجه التشابه بينهما، وليس أقلها اختلافها المشترك العميق عن الريف التقليدي الأكثر اتساعا من حولها، وكذلك عن المدن الكبرى مثل وارسو وكراكوف اللتين انتصرتا في "النضال من أجل الاستثمار الأجنبي".
يصر سبرينغر على أن المناظر الطبيعية المهجورة التي يزورها ليست مصادر موثوقة للمعرفة الذاتية للأشخاص الذين يعيشون فيها. يقول في روايته عن بلدة التعدين المدمرة تارنوبرزيغ "المسألة بالنسبة للأطلال هي أنها من السهل أن يُنظر إليها لفترات طويلة. وفورا تبرز الجدران المتداعية لتبرر كل الفشل الذي يحيط بها". إن الأجوبة التي تقدمها هذه الأطلال سهلة للغاية؛ فهي لا تنتج رؤى حقيقية أو مفيدة يمكن أن يبني عليها سكان المدن. وبدلا من ذلك فإنها، فقط، تعكس للسكان شعورهم بالهزيمة، كما تعزز حتمية الهزيمة الواضحة. إن القصص الشخصية التي يعيد سبرينغر روايتها تحمل شعورا بغياب الهدف وانعدام السياق، والذي يبدو أنه يأتي لتأكيد التشخيص. اثنان من الشبان الذين قابلهم في زاموتش، يقضيان وقتهما في صناعة اشتقاقات "غرافيتية" فوق جدران لا يأتي أحد لرؤيتها. كبار المسؤولين في تارنو، نوي، ساتش وإلبلاغ، يقودون سبرينغر حول المباني المتهالكة التي كان من المفترض أن تستضيف مراكز التجارة الدولية والمدارس الابتدائية التجريبية متعددة اللغات. جزء مما فقده أهل هذه المدن، في محاولتهم الفاشلة للتغريب "اللحاق بالغرب"، هو عدم القدرة على الانفتاح على آفاق أكبر من أنفسهم.
في رواياته، يصور لوكاش أوربيتوسكي تجربة مماثلة من الركود، من خلال مثال محاصر في الحاضر الأبدي. شخصياته تطور أنماطا دورية من التفاعل الذي لا يراكم أبدا أي شيء سوى الخطورة. إنهم يتطلعون إلى وظائف ناجحة، ولكنهم يجدون أن عملهم لا يثير أي شيء سوى الروتين الذي لا يمكن كسره إلا من خلال أعمال مثيرة للخلاف أو العنف.
بدأ أوربيتوسكي أول ظهور له في أوائل الألفية الجديدة كأديب، لكنه، وبعد أكثر من عقد، ابتدع نمطه الكتابي الخاص من خلال "روح مختلفة، 2015"، وهي رواية مستوحاة من القصص الإخبارية المحلية من مدينة بيدغوزتش. ضمن هذا الإطار شبه الصحفي، فإن تأملات أوربيتوسكي والأسلوب الذي اعتمده يوضعان لخدمة واقعية نفسية متشائمة للغاية. الكتاب يعيد سرد سلسلة من جرائم القتل التي وقعت في هذه المدينة. الشخصيات الرئيسية الثلاث؛ الراوي كريسيك وزميلاه في المدرسة دريك وجيدريك، هم من جيل التسعينيات، تماما حين كانت بولندا تشهد تحولات سياسية كبيرة. ولكن لا يجد المراهقون ولا أسرهم أن حياتهم تحسنت بشكل ملحوظ، أو اختلف واقعها بشكل كبير بسبب هذه التغيرات. بدلا من ذلك استمروا على ما كانوا عليه في مسارات طويلة يظهر أنها لا تقود إلى أي مكان. والد كريسيك مدمن على الكحول يحاول باستمرار التعافي منها، ولكنه يفشل، وفقر العائلة يصبح قدرا لا مفر منه مع كل فشل جديد له. دريك قتل قبل بلوغ سن الرشد؛ أما جيدريك، فهو الذي يمنعه مزاجه الحاد وانفعالاته من الترقية في وظيفته كطاهي معجنات. هذا المناخ العام حوّل جيدريك ليكون قاتل دريك. الرواية مذيلة بفصلين تم تحديدهما في 2010، حيث يزور الراوي جيدرك في السجن، لكنه لا يستخرج منه ما هو الدافع وراء جريمته، كما لا يلمس لديه أي تعبير عن الندم.
تشاؤم أوربيتوسكي لا يأتي فقط في الحبكة، ولكن أيضا في الأسلوب. في إحدى المرات التفسيرية، يفكر كريسيك وهو يمشي مع والده إلى الحافلة التي ستأخذه إلى منشأة إعادة التأهيل: "بعد أيام قليلة.. أرافق أبي إلى محطة للحافلات. لقد أراني شهادة تسمح لي بركوب الحافلة مجانا. ألغيت غرامات التذكرة بأثر رجعي. هذا ما أكده لي؛ قال إنه سوف يجعل حياته جديدة بهذه التفاصيل. قبل أن يصعد في الحافلة، أخذني بين ذراعيه وكاد أن يكسر ضلوعي من شدة العاطفة والمودة. صعد إلى الحافلة. حينها بدا إنه غير حقيقي، مثل عصا مجازية مرسومة على زجاج نافذة قذرة. ألتفّ أنا وأعود إلى الحديقة عن طريق مسارات السكك الحديدية. أعثر على مقعد، وأحاول أن أستوعب ما رأيته للتو".
راوي أوربيتوسكي رجل ناضج في الوقت الذي يكتب فيه هذه الجمل. ومع ذلك، كان كلما يبدأ باستعادة شبابه، يتيح لصوته ولوجهة نظره أن يصبح طفوليتين. كما إنه حين يعيد سرد وعود والده الفارغة من خلال الخطاب غير المباشر، يتيح لنا أن نسمع، في جمله القصيرة والبسيطة، ضيق البلاغة في خطاب الأب والحرص الذي يبديه الصبي للاستيعاب. استعارة "عصا مجازية" السابقة تنقل أيضا مدى الصعوبة بالنسبة للأب والابن، على حد سواء، في تخيل حقيقي لمستقبل أفضل. وبالفعل، ما إن ينتكس والد كريزيك مرة أخرى، حتى تكرر الدورة نفسها مرات عديدة.
بعد ذلك بكثير، سوف يخطر لكريزيك أنه يمكن له الرحيل بعيدا، وهي فكرة لا يمكن تصورها بالنسبة لشاب مثله. وبسبب القهر الذي يغذيه مجتمع يموت ببطء، كما هو الحال بالنسبة لكريسيك، أو الخراب الذي يقوده العنف بسرعة كبيرة وتقلبات الأنا، كما هو الحال لدى صديق كريزيك، جدريك، فإن شخصيات أوربيتوسكي لا يمكن تصور ذهابها إلى أي مكان، تماما كما لا يمكن تخيل كسرها الروتين العالقة فيه. إن أعمال الفصل الفظيعة التي تقوم بها الشخصيات في نهاية المطاف - القتل في قضية جيدريك، وحركة أقل عنفا ولكنها خطيرة إلى وارسو من خلال الراوي - هي مدهشة وسوريالية لقلة تدبرهم في تخفيف القبضة التي تشدها بلدتهم عليهم. وبمجرد اكتشاف جريمته وإدانته، يبدأ جيدريك بقضاء حكما بالسجن مدى الحياة في السجن المحلي، حيث يزوره عدد قليل من الأشخاص الذين عرفوه بشكل دائم طوال طفولته. بعد تدبر كريزيك بإيجاد مهنة لنفسه في مدينة أخرى، اعتاد أن يذهب إلى بيدغوزتش لزيارة جيدريك، ولاستنزاف مدخراته لدعم والده الذي يزيد عجزه باستمرار.
رواية جوانا باتور "عتمة، هبوط الظلام تقريبا؛ 2012"، تحدد أصول هذا الشعور بالعجز والركود، ليس فقط في عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في وقت متأخر من العهد الشيوعي في بولندا، ولكن أيضا في الصدمات الجماعية السابقة غير المعالجة للحرب العالمية الثانية. بشكل خيالي وأسطوري، وضعت وابرزيتش، واحدة من العواصم الإقليمية السابقة والتي وصفها أيضا سبرينجر. ويصور سرد باتور البلدة باعتبارها أكثر عرضة للاضطرابات التي حدثت في أواخر تسعينيات القرن الماضي لأنها لم تتطابق أبدا مع الجرائم والخيانات التي هزتها قبل خمسين عاما. باتور أكثر التزاما بالاستبطان وسبر الأغوار من أوربيتوسكي أو سبرينجر، ولكن مفارقات روايتها تصور التمحيص الذاتي كما لو أنه مستحيل الحدوث في مثل هذه الظروف الاجتماعية غير المحددة إلى درجة كبيرة. بالنسبة للبلدة التي وقعت فيها مجريات الرواية، فإن تاريخ المجتمع غامض إلى حد كبير ما عدا الكوابيس الرهيبة والخيالات والأحلام. غارقة في ماضيها، ومتروكة في الخلف من الرأسمالية التي يبدو أنها تجاوزتها تماما، ضاعت البلدة الصغيرة في شعور عام من الخوف والخرافات، وعدم القدرة على التنبؤ.
رواية باتور، "أليسيا تابور"، تصور صحفية تعود إلى مسقط رأسها لتكتب عن سلسلة اختفاء لأطفال. وبمجرد وجودها هناك، يدمج تحقيقها في حالات الاختفاء مع تصفية حساب شخصي لتاريخ أسرتها. والدتها، التي أصيبت بصدمة أثناء الحرب، استمرت في إساءة معاملتها وشقيقتها الأكبر سنا. ومن خلال لقائها مع نساء مسنات، وصداقات سابقة، ومبشرين متجولين، تلقي الراوية الضوء على بعض صدمات الحرب التي تعرضت لها أمها، وكذلك على الطرق التي حاولت شقيقتها الأكبر المتوفاة حمايتها فيها من انفجارات أمها العنيفة. غريب الأطوار المنعزل الذي التقته في غرفة دردشة على الإنترنت يساعدها على اكتشاف كومة من رسائل شقيقتها. زميل دراسة سابق يرافقها في جولة استكشافية لأنظمة الصرف الصحي وأنفاق المدينة بحثا عن الخاطفين والأيديولوجيين في الماضي والحاضر. في هذه العملية، تغوص الرواية ببطء في التاريخ الاشتراكي الأكبر الذي تعد فيه الطفولة مع والدتها مجرد جزء صغير منه، فيما الأطفال المفقودون حاليا هم الفصل الأحدث، ويبدو أنه من المحبط الآن أنه يمكن التنبؤ بهذا. تبدأ برؤية طفولتها الخاصة كنثارات تتخللها أصداء وإعادة إحياء للعنف الذي يمارس اليوم على الكبار. كما أنها تبدأ بإعادة تفسير الأساطير الحضرية التي رويت لها - وكثير منها ينطوي بشكل مثير على تربية القطط - ومحاولات مجتمعها الانتقال إلى نماذج بديلة من الرعاية الذاتية والرعاية المتبادلة للجيل الشاب.
للمفارقة، باتور تمثل مسقط رأس الراوي، وكمكان تحتاج للعودة إليه لمعرفة نفسها، وكموقع حيث التفكير لا يمكن أن يحدث بشكل صحيح إلا في الأوهام والسراب، والتي دائما ما تكون متعددة ومتشعبة، ومن الصعب لها التغلب عليها لتفسيرها بثقة كاملة. أشكال المصالحة الجزئية والوضوح التي حققتها أتت إليها في الرؤى والأحلام، وجودتها المجازية لا يمكن لها أن تختزلها إلى تشخيصات وحقائق. هذه الرؤى، أيضا، تظل ذات طابع جذري خاص: من الممكن أن تساعدها جزئيا في شفاء شعورها الذاتي، لكنها لا تشعر بالقدرة على مشاطرة عوالمها الجديدة مع الغرباء. مثل أوربيتوسكي، تستخدم باتور مجازات المرايا وزجاج النوافذ لنقل إحساس الراوي بالخوف والارتباك: "أخذت جهاز الكمبيوتر الخاص بي. الضوء الأزرق لشاشته الصغيرة خاض معركة غير متكافئة ضد الظلمة المحيطة. كنت أرغب في الحديث مع المحررين (في وارسو) عن متى ينبغي أن يتوقعوا عودتي، ولإقناع نفسي بأن أترك هذا المكان قريبا، ولكن، الإنترنت اللاسلكي كان في أسفل. لا شيء يعمل في هذه البلدة، ولا شيء يبدو صحيحا، حتى وجهي كان مشوها وصغيرا جدا وأنا أنظر إليه في زجاج النافذة القذرة".
أخيرا، وعندما تركت أليسيا وابرزيتش، كان لديها أمل بسيط جدا في أن تحقيقاتها قد أظهرت حقا مسارا أفضل نحو الأمام للمجتمع، أو وصلته مرة أخرى بالعاصمة التي تعود إليها. لم يندمج بنجاح في العالم الغربي الجديد من حوله، ولا تم اجتثاثه منه تماما، التخلف لمسقط رأسها يبدو كما العذاب السياسي والاجتماعي، وطريق إلى الجنة لم تكتمل. وبغض النظر عن الشعور بأن أي شيء يمكن اكتسابه في مثل هذا المكان، فإن كشف خفايا النفس والتحقيق فيها، وعمل الراوي الذي تقوم به يتخذ نوعا من الجودة التي لا طائل منها.
إنه هدف لأعمال باتور وأوربيتوسكي وسبرينجر لخلق إحساس المجتمع - وفي النهاية تاريخ مشترك - لسكان هذه المدن الذين عزلوا ليس فقط عن العالم الواسع ولكن أيضا من بعضهم بعضا، وبالتالي عن أفضل موقع لفهم مأزقهم. بنفس القدر من الأهمية، فإن كتبهم تتعامل مع المدن الحضرية الأكثر ثراء في وارسو وروكلو، أو كراكوف، والتي تشتمل على قرّائهم الأكثر تعطشا. لرؤية العالم من خلال عيون مواطنيهم الذين تركوا هناك على طريق نجاحاتهم الخاصة - في حالة والديّ، من خلال عيون جان وماريا اللذين ما يزالان يعيشان قريبا منهما عبر الشارع - فإنه الآن، وفي كثير من الأحيان، عمل أكثر صعوبة من الخيال للطبقة المتوسطة البولندية أكثر من تمييز نسخهم من معادليهم من الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية. وحتى عندما يشددون على مدى صعوبة القيام بذلك، فإن كتب باتور وأوربيتوسكي وسبرينجر تحاول بناء الجسور بين المجتمعات الراكدة في بولندا وأكثر المجتمعات نجاحا. إنهم يصرون على أن الأخير يجب أن يقيس نفسه ليس فقط بالنماذج الغربية، بل أيضا بالواقع المرير المجاور.

  • مارتا فيغلرويتش: أستاذة الأدب المقارن والأدب الإنجليزي في جامعة ييل. http://bostonreview.net