الوباء بما هو أزمة العولمة

تنشئ المنظومات والأيديولوجيات السياسية والاقتصادية نقيضها، تكاد تكون هذه القاعدة تحكم مسار الإنسانية، بل هي قانون الكون والحياة، أو كعب أخيل؛ فالشيء كل شيء يحمل في الوقت نفسه ضده، وكما أنشأت العولمة تدفقا وانسيابا رائعا للأشخاص والسلع والأفكار والثقافات والتجارب بين الأمم، وتحدت العوائق الجغرافية والطبيعية كما السياسة والسيادة والقوانين التي تحيط بها الأمم نفسها وحدودها، هكذا تدفقت بالانسياب نفسه الأوبئة والأزمات المالية والسياسية والإرهاب والتطرف والكراهية والأصوليات واليمينيات والأناركيات،…اضافة اعلان
كان الوباء على مدار التاريخ مؤسسا للتحولات الكبرى في العالم، الانتصارات والهزائم، وأفول وصعود الحضارات، إذ تغيرت خريطة العالم على وقع وباء الطاعون في القرن الرابع عشر، والذي فتك بالناس والأمم، فانهارت امبراطورية المماليك، واكتسحت الدولة العثمانية أوروبا، وأخرج العرب من الأندلس، فالطاعون عكس كورونا يزدهر في الدفء وينحسر في البرد، وهكذا فقد استفادت ونجت أقاليم الشمال البارد وضعفت أقاليم الجنوب الدافئ، .. وتغير التاريخ والعالم!
يعرض شلدن واتس في كتابه "الأوبئة والتاريخ: المرض والقوة والإمبريالية" كيف غيرت الأوبئة التاريخ، وكانت جزءا من الحروب والاستعمار وفي أحيان ردا على المستعمرين، .. فقد أبادت أوبئة الجدري والإنفلونزا الأميركيين الهنود وفتكت بهم أكثر من الحروب والمجازر التي ارتكبها المستوطنون الأوروبيون، وفي المقابل فقد انتقل إلى الأوروبيين مرض الزهري الذي انتشر كالطاعون وفتك بأعداد كبيرة من الناس في أوروبا، وقدرت في العام 1864 نسبة الجنود البريطانيين المصابين بالزهري بـ 37 في المائة، وتحت وطأة الخوف والرعب من انقراض الجنس الأبيض تحركت الأمم الأوروبية بفعالية للتوعية والعلاج واتخاذ التدابير لمواجهة المرض، وبعدما استطاعت أوروبا التخلص من الجذام عاد إليها عن طريق الشعوب المحتلة في الهند وآسيا.
كان الجذام (وما زال في الهند) سببا في عزل الناس ومطاردتهم، وفي سفر اللاويين أن المشتبه بإصابته بالـ "برص" أي الجذام يعرض على الكاهن وحين يتأكد أنه مصاب بالجذام وليس شيئا آخر، ينادى عليه بأنه نجس ويعزل عن الناس.
كان المصاب بالمرض يعامل كأنه مدان، ويتعرض للإهانة والطرد والعزلة القاسية، ويعرف جميع المؤمنين من الأديان الإبراهيمية قصة النبي أيوب في القرن الخامس عشر قبل الميلاد، والذي أصيب بالمرض وفقد أهله وماله وتخلى عنه الناس جميعا إلا زوجته.
وظلت أوبئة الجدري والحصبة والكوليرا والملاريا تفتك بالناس حتى في ظل التقدم العلمي والطبي، وما زالت تؤدي إلى وفاة الملايين في أفريقيا وآسيا، وإن استطاع العالم أن يحاصرها ويقلل تأثيرها، ويحولها من أوبئة جائحة إلى أمراض يمكن علاجها ومواجهتها، وتحصين الأطفال ضد الإصابة بها.
ظهرت الكوليرا في شكل وبائي في الهند العام 1817 ووصلت إلى بريطانيا عام 1831، وفقدت بريطانيا على مدى القرن التاسع عشر ما قدر بـ130 ألفا من سكانها، لكن مات في الهند في الفترة نفسها 25 مليون نسمة، ويعود سبب الكارثة إلى أنه لم تتخذ إجراءات وقائية لمنع تسرب المخلفات الإنسانية إلى شبكة المياه. وفي أثناء الحرب العالمية الأولى اجتاحت العالم الإنفلونزا الإسبانية، وأصيب بها أكثر من خمسمائة مليون إنسان، توفي منهم مائة مليون على الأقل، ويواجه العالم أوبئة جديدة مثل الإيدز وإنفلونزا الطيور وسارس، .. وأخيرا كورونا.
ومازال الإيدز عصيا على العلاج، وقد حصد منذ ثمانينيات القرن العشرين حياة الملايين حول العالم، وتحول إلى مرض مستوطن ومتفشٍ في أفريقيا، وما زال السل يمثل تحديا خطيرا للعالم، وهو مرض مرتبط بالظروف الاقتصادية والاجتماعية السيئة في المجتمعات التي لا تحظى برعاية صحية واجتماعية كافية، ومن المتوقع أن يزداد عدد الذين يموتون بسبب المرض بنسبة كبيرة.