الوضوح في مؤتة

شكّل خطاب الملك في جامعة مؤتة يوم الأحد الماضي، نقطة فاصلة في الخطاب السياسي الأردني، فيما يتصل بعلاقة الدولة بالمجتمع، وعلاقة المجتمع بالدولة. إذ جسّد الخطاب حالة من الوضوح السياسي والاستراتيجي التي لم تنقصها الجرأة في تشخيص حالة اللاوزن التي شهدتها البلاد بشكل جلي خلال آخر ثلاث سنوات بالتحديد، واتسمت بتراجع دور القانون في الحياة العامة، وما صاحب ذلك من استرخاء في أداء المؤسسات ومخرجاتها، ونال الكفاءة العامة في جوهرها. هكذا، فقد شكّل الوضوح الملكي رسالة لا تحتمل أكثر من تفسير واحد، وهو نهاية تلك المرحلة التي استهدفت مؤسسات الدولة والمجتمع معا.اضافة اعلان
العدل أساس المُلك؛ هذه خلاصة الوضوح السياسي حيال ملفات الاختلالات التي شهدتها البلاد. فمن ملف العنف المجتمعي والعنف الجامعي الذي عصف بالدولة والمجتمع معا، مرورا باختلالات القدرات التوزيعية للدولة وتراجع حضورها في المجال العام، وصولا إلى تفعيل دور القانون وجعله يعمل من أجل الجميع؛ تبدو أزمة التمسك بالعدالة جوهر المسألة الأردنية، كما شخصها الملك بجرأة ووضوح. فغياب العدالة أو اعتلالها، وتراجع تكافؤ الفرص، ولدّا الاحتقان والشعور بالظلم؛ ما يعني عمليا تنامي مشاعر النقمة الفردية والعامة، حيث لا يجد الأفراد أمامهم في لحظة ما إلا الغضب ثم العنف.
هذا الوضوح، وفي هذه اللحظة، يحمل رسالة إلى النخبة الحكومية مضمونها العودة إلى طريق بناء دولة بكل أقاليمها ومدنها وقراها، والتي تقدِر الكفاءة من أبنائها ولو كان أحدهم في أقصى قرية، أو فردا مغمورا في وسط زحام العاصمة. وهذا الوضوح عنوانه العدالة في بناء دولة لكل مواطنيها؛ فالعدالة التنموية هي بيت الأسرار في الاستقرار والاستدامة والنماء والازدهار، وخلاف ذلك يعني طريق الندامة الطويلة والوعرة.
الإصلاح يحتاج إلى روح إصلاحية جادة ومتجددة، ويحتاج إلى قيم إصلاحية مسؤولة؛ ما يعني بوضوح آخر أننا في هذه اللحظة الحساسة والدقيقة في أمسّ الحاجة إلى الوضوح الوطني الذي يعتصم بقيم الانتماء وروح الإصلاح معا، وينهي لعبة المناورة باسم هذا أو ذاك. فاللغة السياسية الدائرة حول مفاهيم الموالاة والإصلاح، وتقسيم المجتمع على أساسها، هي لغة مسروقة من مجالات سياسية أخرى، وتحمل تقسيما وفصلا تعسفيا، وهي لغة مريضة تعيدنا إلى العقل السياسي العربي التقليدي النكد، الذي أهدر قرنا كاملا من العمر الحضاري في البحث خلف ثنائيات تعسفية.
الوضوح الوطني من أجل الإصلاح والانتماء والتنمية، ومن أجل حماية قيم الدولة الأردنية والدفاع عن مستقبل أبنائها جميعا، يعني أن الفرز يجب أن يكون على مبدأ واحد لا يقبل القسمة ولا الفصل، وهو مبدأ الوضوح الوطني في الدفاع عن الحق في الإصلاح والتحديث، كما هو الحال في الدفاع عن قيم الانتماء والهوية والمواطنة المنتمية.
وكما أنه قد حان الوقت لإحداث قطيعة مرنة مع حالة الطوارئ التاريخية، فقد حان الوقت كذلك للخروج من استراتيجية الغموض نحو المزيد من الوضوح المسؤول. في الحالة الأولى، كانت البلاد تبدو وكأنها تدار من خلال ما تمليه إرادات الصراع الخارجية. وعلى هذا الأساس، حُرم المجتمع والدولة معا من الحق في الإصلاح التنموي والسياسي لعدة عقود، حتى كدنا نصدق أن الإصلاح السياسي والديمقراطية في الأردن ليسا شأنا محليا، أو سجالا تشريعيا، أو حتى صراع تيارات سياسية واجتماعية محلية، بل هو شأن خارجي لا يمكن أن يتحقق بشروط محلية.
العلاقة بين الدولة والمجتمع، واستعادة دور القانون والعدالة التنموية، مسائل تحتاج ممارسات واضحة، كما هو الحال في خطاب مؤتة؛ فقد حان الوقت لوقوف الجميع أمام ساعة الحقيقة.

[email protected]