الوطنية الأردنية تتقدم

منذ سنوات طويلة، أراقب سلوك الأردنيين في مواجهة اللحظات القاسية والتحولات الصعبة، كيف تطورت ردود أفعالهم؟ وكيف أعاد الناس في هذه البلاد نسج علاقتهم مع الأحداث والرموز؟ ثمة تحولات مدهشة خلال آخر عقدين تبرز في نمو وطنية أردنية بمفهومها المجرد من الحمولة الإيديولوجية ومن الانقسامات التقليدية وحتى من مضامين التعبئة الرسمية التقليدية، ثمة ثقافة وليدة تدرك وتميز بين سلوك الحكومات وبين أولوية الوطن والدولة. مناسبة عيد الاستقلال الأخيرة تفسر جانبا من هذا الاستنتاج المهم في السلوك الفردي والجمعي في الشوارع وفي المجال العام في علو مكانة العلم الأردني وتعاظم رمزيته، وفي ازدياد التعبيرات الجمعية التي تتوحد على معان وطنية مجردة من السياسة والإيديولوجيا والانقسامات كما يبدو في سلوك عشرات الآلاف على صفحات شبكات الاتصال الاجتماعي أحيانا.اضافة اعلان
خلال العقدين الأخيرين، أخذ مسار ازدهار الوطنية الأردنية ينمو ويتشكل، وفق عدد من المؤشرات التي تؤخذ في الحسبان في مسار بناء الدول وازدهارها، وعلى الرغم من كل مكامن الضعف ومصادر التهديد التقليدية وما فوق التقليدية، التي اعتدنا على ترديدها في السنوات الأخيرة، وتحديدا ما يتصل بأزمات التحديث التي عادة ما تشهدها المجتمعات الانتقالية، وأهم هذه المؤشرات على الإطلاق قدرة الأردنيين على خلق التوافق الوطني في اللحظات الفاصلة. صحيح أن هذه ردود فعل طبيعية في لحظات الشعور بالتهديد أو مواجهة خارجية، وتحدث في الكثير من المجتمعات، لكن ما يحدث في الأردن مختلف تماما ويؤسس لفهم جديد حول دينميات المجتمع الأردني في مواجهة قصة الهشاشة الديموغرافية وهضم التنوع وإعادة إنتاجه، ما قد يضعنا بعد عقود قليلة أو سنوات أمام نموذج تاريخي آخر لفكرة بوتقة الانصهار وإعادة إنتاج المجتمعات والهويات.
اختبر التوافق الوطني خلال السنوات العشر الماضية في لحظات صادمة مثل تفجيرات عمان 2005 وفي حادثة الشهيد الطيار معاذ الكساسبة 2014 وفي عمليتي إربد والكرك الإرهابيتين، كل من هذه اللحظات خلقت إجماعا وتوافقا سياسيا واجتماعيا قويا، وكل من هذه اللحظات قد ينظر إليها من زاوية مختلفة من حيث مصادر التهديد ومستواه والمستهدف منه والفاعلين فيه.
الوطنية الأردنية تزدهر وتخلق الالتفاف حول الجيش والأمن في محيط تدمر فيه الجيوش الأوطان وتمزق الأجهزة البوليسية المجتمعات وتحولها الى مذاهب وملل. المفارقة الأردنية تبرز في أن الأحداث هي وحدها التي تدشن هذا النموذج المختلف في مسار بناء الدول الحديثة، بينما ما تزال الوطنية الأردنية تعاني من فقر مخجل في الأدوار البنائية لمؤسسات التنشئة، وفي مقدمتها المؤسسة الثقافية الرسمية والمؤسسة التعليمية والمؤسسة الإعلامية والمؤسسة الشبابية. مناخ الوطنية الأردنية الراهن قابل للبناء عليـه وقابل للازدهار، وعلينا أن نفكر من جديد ونعترف هل نحن فقراء بالرموز والتعبيرات الجمعية التي يبنى من خلالها البناء المصلحي والعاطفي الجماعي وتشيد بالتالي الذاكرة والخيال الاجتماعي البناء؟، وهل هناك مبالغات سياسية في تقدير عمق فجوة المواطنة والوطنية؟
الأردنيون عليهم اليوم واجب تجديد تمسكهم بالمستقبل وبالاستقرار وبالأمل، بالمزيد من الذكاء العاطفي الجماعي الذي يعيد ترميم العلاقة بين المواطنة والوطنية بل إعادة إنتاجهما من جديد وتجاوز أخطاء الماضي القريب، ما يعني أن ما نحتاجه اليوم منظور اجتماعي-سياسي للتنمية السياسية والثقافية قائم على تنمية المواطنة والوطنية، التي تعني أن الوطنية التي ترفع العلم وتقدر الرموز لا تكف عن المساءلة ومقاومة الفساد وتحارب الإحباط وتزرع الأمل.