الوطن حيث نموت!

أيهما أحرى بضم جثمان المهاجر: الوطن أم المنفى؟

هذا السؤال يؤرقني منذ مدة طويلة، منذ رأيت جثامين بعض المبدعين المهاجرين تُحملُ عائدة إلى "مساقط رؤوسهم"، عقب مماتهم، بعد أن كانت المسافة بينهم وبينها تساوي أعمارهم كلها.

اضافة اعلان

أم لعلني أصوغ السؤال على النحو الآتي: أيهما أكثر حنانا: الوطن أم المنفى؟ فإذا كان الوطن هو الأكثر حنانا، فلماذا يستبدله المبدعون بالمنفى، أصلا، وإذا كان العكس صحيحا، فلماذا لا يكون المنفى، إذن، خاتمة الجسد، مثلما كان قصة حياته بطولها، أم أن المبدعين يصرون على أن يكون مطلع حياتهم كخاتمتها، على غرار القصائد العمودية، وأنا هنا أعني الشعراء المهاجرين، تحديدا.

أيضا، لماذا يناقض المبدعون أنفسهم، حين يزعمون، وهم على قيد الحياة، أن الأرض برمتها ملك لهم، بل ومنهم من يذهب إلى أبعد من ذلك، حين يزهد حتى بالكرة الأرضية، وبجسده" الأرضي" كله، على حد تعبير المتنبي:

وإني لمن قوم كأن نفوسهم

بها أنَفٌ أن تسكن اللحم والعظما

هم يزعمون أنهم غير "أرضيين"، لكنهم حين يموتون، سرعان ما يعودون للتنقيب عن ذلك الشبر الصغير من الأرض، الذي سقطت عليه رؤوسهم، يوم ولدوا، فأسموه "مسقط الرأس"، وهنا يثور سؤال آخر: لماذا لا يكون "مسقط الرأس" هو المسقط الأخير، بمعنى أن لا يكون الوطن حيث نولد، بل حيث نموت؟

لا أعتقد أن أحدا بوسعه الإجابة عن تلك الأسئلة، سوى الأموات أنفسهم، كونهم الأقدر على تحديد الفرق بين ضريحين، غير أنني أشعر، أحيانا، أننا نخون المنفى حين نهجره، أمواتا، لا سيّما وأنه كان أكثر إخلاصا لنا في حياتنا، فصدَقنا الحلم الذي كذبه وطننا، وآوانا من خوف ووهبنا الحرية، فلا أقل، إذن، من أن نكافئه بقبورنا، بعد موتنا، بدل أن نكافئ النقيض، الذي ما وهبنا غير قبورنا قبل موتنا!

أرجح أن المبدعين، بسلوكهم هذا، إنما يسعون للتعويض، بموتهم، عن سائر المعارك التي خسروها، أحياء، لا سيّما وأن العودة، بتلك المراسم المهيبة، سرعان ما تحيل إلى الذاكرة، مشاهد عودة الفاتحين إلى أوطانهم، بعد جهاد مرير. غير أن المبدعين، ما عاد بوسعهم، أن يفتحوا أعينهم، ثانية، ليقفوا على حقيقة أن أوطانهم لم "تفتح" بعد، ولا حتى بموتهم، وأن المنتصر الوحيد ما يزال هو "الجنرال" نفسه، الذي يسارع إلى استقبال جثامينهم على أرض المطار، ورفعها إلى الأعلى، كمن يرفع خصما مهزوما، وليضيف إلى سجل انتصاراته، انتصارا جديدا ..!

لا أقصد، هنا الأوطان السليبة، ولا المبدعين المطرودين من أرضهم، بل الذين خرجوا طوعا، لظروف تتعلق بكبتهم النفسي، وبحثهم الأرحب عن فضاء الحرية، ممن يمتثلون لقول الشاعر:

بلادي وإن جارت علي عزيزة

وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرامُ

والحال أنني أقف على النقيض من هذا الشاعر، لأنني لا أقبل الجور أو الضيم، وأفضل المنافي عليهما، مستبدلا إياهما ولو بالصحراء البلقع والوحوش الضواري، تماما كما فعل الشاعر الصعلوك الشنفرى، الذي انحاز للصحراء وهو يصرخ: "ولي دونكم أهلون سيد عملّس.."..

كما أنني أهرب من "مسقط رأس" أخشى فيه على رأسي من السقوط، تحت وطأة الخوف والرعب والمطاردة، وأفضل أن يسقط رأسي، سقوطا طبيعيا، في أي منفى يحترم هذا الرأس ويبجّله حيا وميتا.

عموما، ستظل الجدلية قائمة بين الوطن والمنفى، ولن تحسمها، ولا حتى إجابة الشاعر الفرنسي، الذي قال "أنا المكان"، ولا الانتماء المرهون بالتراب، وحده، ولا اليتيم الذي وقف، مترددا، حين كان يتعين عليه أن يحدد أيّ الأبوين يختار: الذي ربّاه، أم الذي أنجبه؟