الوعود العظمى التي أخلفتها الثورة المعلوماتية "الإنترنت" (2 - 2)

يناقش كارل ألبرخت، المحاضر، والمستشار الإداري، والمفكر المستقبلي، والمؤلف لأكثر من عشرين كتابا في الإنجاز المهني والأداء الشركاتي الإداري، والاستراتيجيات "البزنسية"، والذي كرمته منظمة مينسا (mensa) للأذكياء، بعضويتها مدى الحياة، مدى تلبية أو عدم تلبية الثورة المعلوماتية (الإنترنت) للوعود العظمى أو الآمال الكبار التي عُلقت عليها بعد انطلاقتها القوية منذ أواسط التسعينيات، ويصل في النهاية إلى أنها أخلفت وعودها العظمى في ثماني مسائل (t.f: w.f.s: march-april 2014)، وها أنا اعرض مناقشته لهذا الأمر بتصرف.اضافة اعلان
6. الوعد العظيم السادس:
ستنشر الإنترنت الديمقراطية في العالم، وأن فجرا جديدا سيشرق عليه، ولن يظل الحكام يحكمون بالتخويف.
الحقيقة الراهنة: نعم. لقد ساعد مصطلح "مناصرة الجماهير" الذي تستخدمه الميديا الاجتماعية في إخراج المواطنين إلى الشوارع، وإسقاط الدكتاتوريين في بعض الحالات، إلا أنه أثبت في معظم الحالات أنه عديم الفائدة ديمقراطيا. فمثلا لم تسفر البلاغة الزائدة ذات الجرعة الزائدة من الكافيين التي أطنبت في التهليل للديمقراطية القادمة المرغوب فيها في بلدان الربيع العربي، وفي البيئات الساخنة منها مثل ليبيا ومصر وسورية.. عن شيء مثل هذا بمجرد سقوط الديكتاتوريات الحاكمة فيها.
لعلّ مراجعة موجزة للتاريخ الحديث في البلدان النامية يمكن أن تذكرنا بأن التقلبات فيها تأتي عادة بعصابة جديدة من السفاحين تحلّ محل أخرى. يستطيع الرعاع التدمير فقط ولا يستطيعون بناء شيء جديد.
لطالما تعلق معظم الأميركيين وحكوماتهم بالنموذج الدون كيشوتي لديمقراطية زيروكس (xerox democracy) وهو أنه يمكن نسخ النظام الأميركي الديمقراطي الفريد، وعملية التفكير الخاصة به في أي مجتمع مضطرب إذا استيقظ الناس فيه لما هو ملائم لهم. وسيرون بمجرد الاستيقاظ القيمة الواضحة للديموقراطية فيه. وهو اعتقاد خاطئ. لم تعلمنا سلسلة طويلة من الأحداث في فيتنام والعراق وأفغانستان.. شيئا كما يبدو.
[لعل الكاتب يتجاهل أن أميركا ظلت أعدى أعداء الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، لأنها تجعل التحكم في سياستها وثرواتها ومواقعها أصعب عليها من التحكم فيها بالحكم الفردي الديكتاتوري، وإن كانت تغلف خطابها بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. إن خطاب الرئيس الأميركي بوش الابن لم يكن سوى غطاء لجرائمه ضد الإنسانية في أفغانستان والعراق. وقد كشفت التقارير عن الفبركة اللا أخلاقية والتي لا تمت للحرية والديموقراطية بصلة، الأسباب اللازمة والعوامل ليقوم بغزوهما وتدميرهما].
[وكأن الكاتب هنا أيضا ً يرى أن الديمقراطية مجرد آلية وليست قيما أيضا في المجتمع، وتحتاج إلى بعض الوقت لتتمأسس. لقد احتاجت الثورة الفرنسية (1789م) إلى نحو ستين سنة لتستقر شعاراتها وقيمها ومبادؤها في نفوس الفرنسيين].
[لقد أدت ثورات الربيع العربي إلى انفجار الصندوق التاريخي العربي الأسود المليء بالمكبوتات الديكتاتورية والعنصرية والإثنية والطائفية والمذهبية.. على مرّ التاريخ، ونشرها على حبال الغسيل، وهي بحاجة إلى فترة غير قصيرة لتستقر وتأخذ طريقها نحو الديمقراطية. لا يعني هذا أنني أدافع عن فوضى الربيع العربي والضياع الذي يشعر العرب فيه على إثرها، وإنما أفسّر فقط، وأنه سيأتي زمان يعيش فيه أولادنا وأحفادنا في نظم عربية ديمقراطية مستقرة. لكن لما كنا نحن الذين نعيش هذه الفوضى وهذا الضياع ونشعر بالخطر ونخاف على المستقبل فإننا نعاني من قلق دائم عليه].
إن الأثر الأكثر إزعاجا ً للتفشي السريع لاستخدام التكنولوجيا الرقمية ذلك التدمير الذي لا يلين لواحد من الأعمدة الأساسية للديمقراطية في أميركا، ففي أقل من عقد تنازل الأميركيون تماما وبإرادتهم عن واحد من أكثر الحقوق الدستورية العزيزة عندهم، وهو الحق في الخصوصية. لقد سلـّموا بحماس بياناتهم الشخصية، فحياتهم الشخصية للشركات الجاهزة دوما لاستقبالها مثل جوجل وفيسبوك، ولحفنهة من وزارات الحكومة ودوائرها مثل وزارة الأمن الداخلي ودائرة المخابرات، ومكتب التحقيقات الفيدرالي، وكثير من مكاتب البوليس المحلية.
إننا نجد أنفسنا نعيش في عالم سريالي من الإقناع والمراقبة الواسعة الانتشار وحتى الاقتحامية العدوانية، حيث تعرف عنا وعن أنشطتنا تلك الشركات والوزارات والدوائر أكثر مما نعرف نحن عن أنفسنا. إن تليفوناتنا الخلوية تستطيع الآن ملاحقتنا وتقديم تقارير بأماكن وجودنا أينما نذهب. أما مشترياتنا ببطاقات الائتمان فتوفر موزاييك من المعاني عمّن نكون، وماذا نعتقد، وماذا نريد. وتوفر أنشطتنا الإلكترونية (online) معلومات عنا (لهم) على نحو ما لم يحدث له مثيل في التاريخ. وتبرر الشركات هذه المراقبة المستمرة وغير المحدودة بالتلاؤم مع مصلحتنا التجارية، وأنه بفضلها تستطيع تقديم الكثير مما تريد ونرغب فيه. [أي بعد فحصها لنا والتعرف على رغباتنا وميولنا]، أما الوزارات والدوائر الحكومية والبوليس فتبرره بحجة تفعيل تطبيق القانون، وضرورة الحرب على الإرهاب. ومن السخرية القول إننا زودنا طوعا وبحماسة وبغفلة ومجانا هذه الشركات التجارية بنوع البيانات والمعلومات للقيام بهذه المراقبة الضخمة للخصوصية، التي كان عليها دفع بلايين الدولارات لجمعها.
تأمل مثلا شركة مثل فيسبوك كيف تمكنت عن طريق الخط المجاني (online) من استهداف بليون من البشر، كل واحد منهم معلوم ومصنف بالتفصيل، وذلك من أجل استغلال هؤلاء "الحمقى المغيبين" تجاريا بطرق لا تحصى، في الوقت الذي يظلون فيه سعداء بمزحة اشتراكهم في خبرة الميديا الاجتماعية المدمنة. ترى ما الكلفة الحقيقية للمجاني؟ يبدو أن جورج أوريل لم يحلم بوجود مثل هذه الظلامية في روايته 1984.
[لقد جعل انتهاك تكنولوجيا المعلومات للخصوصية المفكر المستقبلي باتريك تاكر يؤلف كتابا عنوانه: "الطبيعة العارية" (the naked nature,2014)  للمواطن الرقمي لكثرة ودقة ما يجمع من معلومات عنه تستخلص من أنشطته، أو تسقط من يديه وهو يعبئ ليل نهار الاستبيانات والنماذج كما في حالة التأمين أو يتكلم ويدردش ويتحرك والكاميرات تراقبه. وقد وصف تاكر عصرنا هذا بعصر القياس عن بعد (telemetric age)، إن النتيجة كما يراها تاكر أن المسيطرين على المعلومات عنك سيتمكنون من التنبؤ بسلوكك وحاجاتك والتعامل معها. إنه يقول: بالنسبة للشركات والمسوقين وصناع السياسة فإن ازدياد دقة التنبؤ أو ما يسمى أحيانا بالتحليل الاستباقي (anticipatory analysis) سيزيد شهوتها لمزيد من المعلومات لأنه كلما زادت كلما صارت التنبؤات أدق].
التنبؤ الجديد: من المحتمل أن تظل الميديا الاجتماعية أداة فعالة في الانتفاضات الشعبية، وبخاصة في البلدان الأقل استقرارا. وسوف تلقي الضوء باطراد على انتهاكات حقوق الإنسان. وقد تؤدي إلى سقوط عدد من الحكومات الظالمة، ولكنها ستعمل القليل لبناء ديمقراطيات جديدة، بدلا من الأنظمة أو الحكومات المنهارة. إن ذلك سيظل يعتمد على ظهور قادة ذوي قدرات نادرة. ولتهدئة المقاومة قد تتبنى بعض الأنظمة الديموقراطية بصورة تدريجية، فيما قد تطبق أخرى إجراءات وحشية مضادة.
7. الوعد العظيم السابع: ستجعلنا الإنترنت أكثر معرفة:
كان الوعد الذي روّجوا له أن الإنترنت ستخلق مجتمعا أفضل معرفة أو معلوماتية، بإتاحة وصول أفراده إلى مصادر جديدة واسعة من الأخبار من المصادر البديلة للمصادر الرسمية. وستتجنب المصادر الإنترنتية التي تقدم الأخبار الطرق التقليدية التي يتبعها (حراس) شبكات التلفزيون والجرائد الكبيرة، بأخبار أو معلومات أصدق تقدمها المخارج الإنترنتية، مما سيجبر المصادر الأولى على رفع مستوى اللعبة، ويجعل الجمهور يفكر أكثر وأكثر.
الحقيقة الراهنة: أصبحت الأخبار الزائدة المتاحة لنا أكثر عُجمية من قبل ولأسباب تجارية مفيدة جدا. لقد أصبح بزنس الأخبار، بما في ذلك المطبوع أو المذاع، والسلكي (بالكوابل) ومواقع الشبكة ومنصاتها ومنابرها، مسألة (حرب) حياة أو موت بينها لجذب الانتباه. إن كمية كبيرة من المصادر الإخبارية تستخدم الآن قصصا مثيرة "كطُعم للنقر" (click bait) لجذب الناس للاطلاع على الإعلانات المدفوعة. ومن ذلك قولها: "أشياء مثيرة يفكر فيها قطك أو كلبك"؛ أو "خمسة أشياء يعملها الناجحون في المساء"؛ أو "هل يجب طرد المعلم لصورة في الإنترنت؟".
المتغير الوحيد الذي يحسب حسابه الآن هو "مقلة العين": كم واحداً من الناس شاهد الرسالة الإعلانية قبل رؤية (القصة أو الرواية الإخبارية) أو في أثنائها وبعدها. لقد أصبح تذليل محركات البحث اللهجة السائدة في كوكب الشبكة.
عمليا، لقد سيق جميع مزودي الأخبار الإلكترونية وفقرات التسلية إلى أكثر الممارسات انحطاطا، لخطف الانتباه مثل عروض العنف، والصراع، إلى درجة السوقية والابتذال والمناوقة مثل إتاحة التفرج للمشاهد على جماع بين رجل وامرأة، وعلى الاستخدام للمجاني لكل ما يتعلق بالجنس. ويركز المسلـّون على جعل حياتهم الشخصية غريبة أو شاذة واستفزازية من أجل امتلاك الدقائق الثمينة في أثناء البحث أو الإشارة إليه في الوسائل الاجتماعية مثل تويتر.
لعل التعريف الصحيح للأخبار الآن هو: خسارة الدقة والتهذيب، ومعها خسارة البراءة والدهشة. تعرض مصادر الأخبار الرئيسة باستمرار مناظر في كل مقالة، ولحظة بلحظة. وتصنع لوغاريتمات السوفت وير صفحات جديدة مع قصص مختارة بعناية على أساس عدد الفقرات وأوقات المشاهدة، وليس على أساس الفائدة أو الموضوعية أو القيمة الصحفية. وحتى ويكيبيديا التي كنا نظن أنها أكثر المصادر المعلوماتية ديمقراطية، أصابتها العدوى بالمصلحة الخاصة، وإن كانت إلى الآن مفيدة جدا.
التنبؤ الجديد: قد يظهر انقسام سيكولوجي بياني في الاقتصادات الغنية، على شكل جزء من السكان يرفض بوعي قيم الثقافة الشعبية (pop-culture) النرجسية، ومذهب المتعة أو اللذة، والفورية. وسينحاز هذا الجزء باختياره إلى قيم الثقافة العميقة مثل احترام التفكير العلمي، والوعي الآيكولوجي، وتقدير التعليم، والسياسات الإنسانية، والآداب والإنسانيات، والمدنية السياسية والاجتماعية، والخطاب المتحضر عن الأمور المهمة.
لقد بين عالم النفس المشهور أبراهام ماسلو – أهمية مهارة التغلب على الإعياء واعتبرها مهارة مقاومة. وتعني القدرة على رؤية ما وراء الصورة والأيقونات، والمصطنع من الثقافة السائدة، وضرورة الاختيار المستقل للقيم، والقضايا، والمستقبلات المفضلة.
وستحدد الجوانب الأخرى من الثقافة الحديثة مثل الفروق الفردية والبيئية الأسرية، والتعليم المبكر، وتعرضنا لأنظمة قيم مفذلكة، الأفراد الذين يختارون البقاء مع قطيع الميديا المتثقفن به، والأفراد الذين يختارون البقاء مع الثقافة المضادة. وعندها قد يعني مصطلح "الراديكالي" كل من يرفض ثقافة الأكثرية ويختار وجهة نظر قديمة حديثة معاً.
8. الوعد الثامن: كل واحد يمكن أن يصبح ناشرا:
لم يكن للكتـّاب قبل الكتب والمواقع الإلكترونية، خيار سوى إخضاع أنفسهم للمحررين في شركات النشر التجارية، أملا بخروج منتجاتهم المعرفية (كتبهم ومؤلفاتهم) إلى السوق. وقد جاءت الإنترنت لتزيح هؤلاء جانبا، بدمقرطة النشر، سامحة لكل من يريد أن يجد طريقا لكلمته، فبواسطة الإنترنت يستطيع الكـُتـّاب أن يبيعوا إبداعاتهم مباشرة للجمهور، لأن الناشرين لم يعودا لازمين.
الحقيقة الراهنة: نعم. يستطيع كل واحد أن يكون ناشرا، إنه وعد تحقق. لقد أصبح طبع الكتب حسب الطلب ممكنا بطبع نسخة منه في كل مرة لمن يطلبها. لم تعد طباعة الكتب مكلفة كثيرا، لأنها لا تحتاج إلى طباعة النسخ في كل مرة، فقد جاء الكتاب الإلكتروني (e-book) بمختلف الأشكال، وأصبح بالإمكان نشر الكتاب للقارئ دون كلفة تذكر تقريبا.
إن الترتيب الجديد قادر على جلب حشد من المؤلفين إلى سوق النشر، من دون وسائل معينة ضامنة لنوعية الكتابة. لقد ارتفعت وحلت الكتب المصوغة بيتيا في السنوات القليلة الماضية إلى علو شديد لدرجة أن أي كتاب جديد لفرد ما صار يغرق فيه. لم يتأثر الكتـّاب الكبار كثيرا بهذا التطور ما خلا بحثهم عن تصميم أو شكل إضافي جديد للكتاب الذي يرغبون في نشره – ومن السخرية بمكان أن معظم الذين يمكن أن يكونوا كتابا بقوا في المكان نفسه الذي بدأوا منه. لم يستطيعوا الوصول إلى جمهور قارئ لهم. وبدلا من الفشل في الحصول على الوكلاء السابقين، أو المحررين المستحوذين، صار حجم المادة المنافسة هي التي تمنع الجمهور من العثور عليهم.
لقد صار أصحاب المواقع الإلكترونية أكبر فئة من الناشرين (الذاتيين)، وخطباء هايدن بارك الجدد. إن بعضهم لامعون، وبعضهم يعرجون، وبعضهم غريب الأطوار، وبعضهم مجانين، وصار صوت الشعب الذي يكتب على هذه المواقع لا يخضع للتحرير. [مما سيقضي في النهاية على قواعد اللغة في الإملاء والصرف والنحو].
كما صار أصحاب الصوت العالي المنكبـّون على المواقع جديدة المهاجمون لكتـّاب الأخبار وبعضهم البعض هم بناة أو رماة (بندورة) الثقافة الجديدة.
التنبؤ الجديد: ستصبح إدارة "الوحل" المعلوماتي أحد التحديات الرئيسة التي ستواجه المواطن الرقمي في الغد وسيبحث الناس المتعلمون المستنيرون عن طرق جديدة لخفض الكم من المعلومات المتدفق عليهم، وليس لزيادته. وقد يعمل المتصفحون الأذكياء والمدققون بتقنية مفذلكة للمحتوى المقدم من المواقع الإخبارية. وسيحدد المستخدم أو المستفيد مستوى النوعية التي يبحث عنها. وستغربل المصافي مقالات القراء وتعليقاتهم التي لا تلبي المعايير التي يضعها. وسيستخدم المتفاعلون النشطون أدوات السوفت وير لكتابة تقاريرهم الإخبارية وخلاصاتهم المعلوماتية، وليس الخوض في تأليف القصص اللازمة فقط لقيمتها في الإثارة. وستدرّج المصادر الإخبارية والكتاب حسب طلب المستفيدين، وسيحاسبون حسب نزاهتهم، ومصداقيتهم، وتوازنهم، وحيادهم السياسي، والنوعية الصحفية التي يقدمونها.
ستعني هذه التطورات أن على الناشرين الطامحين والمؤلفين الناشرين ذاتيا تحسين التركيز، والعلاقة، والإنقرائية لموادهم. ومن المحتمل أن يروا طلبا ً أقوى على كتب أصغر وأنيقة، أي بمقياس أو حجم أصغر من مقياس أو حجم كتاب: الحرب والسلام الكبير. وعليهم كذلك تسويق كتبهم بمهارة، وجعل الوصول إلى قراء أقل مع مادة مركزة.
إن أناسا أكثر ستقرأ مواد أكثر، وستبقى الكتب المطبوعة مطلوبة، ومن المحتمل أن تكون مبيعاتها جيدة، يجب على الناشرين الكبار والصغار بناء ميديا متعددة مترابطة، من مثل الربط بين المطبعة والإنترنت، وزيادة القابلية للتحميل، ميديا تفاعلية ومنوعة. [لكن الحقيقة أن الكتاب الورقي يتراجع، وأن أحدا ما عدا القلة، يتمسك به، فكلما التقيت بخريج جامعة اليوم أسأله فيما إذا قرأ كتابا بعد التخرج، فلا يذكر واحد منهم أنه فعل، لدرجة أنني اعتقدت أنه ربما لم يقرأ كتابا عندما كان طالبا فيها. أما الثقافة التي يحصل عليها المدمنون على الإنترنت فستكون سطحية ومشرذمة، مما لا يجعل عند غير القلة القليلة جدا من المتثقفين بالإنترنت، بنية معرفة أو نظاماً معرفيا متماسكا في أي موضوع].
ما العمل إذن؟ ما القادم؟
لقد أعطانا ألآن توفلر مصطلح "صدمة المستقبل" في إشارة إلى الإحساس بالقلق الذي يشعر به الناس جراء سرعة التغيير، وازدياد اللا– دوام البيئي أو اليقيني، وفقدان الشواخص الاجتماعية والسلوكية المألوفة. ونجدد المصطلح الآن بالقول بالصدمة الرقمية (digital shock). سينظر المتعصبون الرقميون الذين لا يستطيعون أو لا يريدون الاعتراف بالجانب المظلم من المعلوماتية، إلى هذا النقاش أنه غير منصف، وأنه تشاؤمي، ولا يعترف بالجميل. أما أولئك المهتمون بالتأثيرات الطويلة المدى للثورة، مثل تأثير الميديا على نمو الطفل ونضجه، فقد يرون أن النقاش يثبت مخاوفهم ويضفي الشرعية على صحتها. إن الهدف الأكبر لهذا النقاش هو تبني وجهة نظر تكنولوجية/ معلوماتية منفتحة ومتوازنة. إنني أعترف بالفوائد الكثيرة التي جاءت بها تكنولوجيا المعلومات وستأتي بها وأقدرها عاليا، ولكنني في الوقت نفسه أدرك آثارها السيئة وغير المتوقعة وحتى المدمرة أحيانا. ويبدو لي أن لا المتعصبون للثورة ولا المعارضون لها يمكن أن يعطونا منظورا متوازنا وتحليلا عميقا، ومحادثة رصينة عن متضمناتها.
لقد تعود أقطاب البزنس على نصحنا بتعلم المهارات والأساليب الجديدة اللازمة للمرحلة مثل إدارة الوقت لنكون أكثر إنتاجا، ومن المحتمل أن تكون أهم مهارة مطلوبة في هذا العصر الجديد هي إدارة الانتباه، فما الذي يجب علينا أن ننتبه إليه؟ وما الشيء الذي يجب أن نستبعده من انتباهنا؟ إن الوقت مورد (resource) والانتباه مورد، فكيف نحافظ على ما يضيع منهما بفيضانات البريد الإلكتروني (e-mail)، أو بأخبار التلوث، وحمل التسلية الزائد عن الحد؟
من المحتمل أن يصبح الأثر البشري لتكنولوجيا المعلومات الرقمية – الكلفة والمواد معا ً– أحد الموضوعات المهيمنة على الخطاب الاجتماعي والسياسي في الوقت القادم. والى ذلك الحين سندرك تماما ً ماذا فعل لنا الاستخدام المتزايد لهذه التكنولوجيا، لكن الوقت سيكون متأخرا لتغيير المجرى، وعندئذ ٍ فإما أن نقبل العيش مع مستقبل خاسر يطل علينا كل يوم، أو أن نواجه القضايا والأسئلة الرئيسة رأسا ونشكل مستقبلنا التكنولوجي الذي نريد.
توجد مشابهة كامنة شيقة في هذا النقاش، فقبل مائة سنة أو أكثر كانت المصانع – من جميع الأنواع–  تتخلص من نفاياتها وسمومها بحريّة بإلقائها في الأنهار والحفر الترابية، معتقدة بوعي أو بدون وعي بالقدرة المحدودة للبيئة على امتصاصها. لقد وصلنا الآن وبعد فوات الأوان إلى النتيجة المؤلمة انه كان على تلك المصانع نفسها تحمل كلفة تلك النفايات والسموم. كان مثل هذه السياسة غير مستساغ في ذلك الوقت، لكننا الآن نجد أنفسنا نسير على الطريق إلى نوع من التصحيح الضخم اللازم للمحافظة على اقتصاد مستدام. وبالمثل جاءت الثورة الرقمية بسرعة كبيرة لدرجة أن قلة قليلة منا أمكنهم رؤية الآثار السلبية لحماسة الشركات غير المسبوق للثورة. لقد بدأنا الآن ندرك أن الصناعة الرقمية تخلق معلوماتها الرمزية، بعد أن ظلت الحكومات في أميركا وغيرها من البلدان المتقدمة متسامحة نسبيا ً مع هذه الآثار أو النفايات. يجب علينا بالتوازي مع القضايا والأيديولوجيات الخضر أن نصارع وأن نتثبت بمفهوم بيئة معلوماتية مستدامة. وربما يجب علينا تسميتها بالقضية الزرقاء كنوع من التفضيل اللوني لها.
والحقيقة الساطعة أن كل أداة أو مادة يخترعها الإنسان أو يكتشفها محايدة في الأصل. ولكن الطريقة التي يستخدمها بها، أو الغرض الذي يستخدمها من أجل بلوغه هي التي تقرر خيرها من شرها. وسيظل هذا الاختراع أو الاكتشاف قائما بخيره وشرّه حسب استعماله إلى أن يحلّ محله ما يلغيه.
والخلاصة أن المواطنين الرقميين في الأقطار المتقدمة سيواجهون أربعة أسئلة حاسمة لمدة طويلة آتية هي:
1. ما الحقوق والامتيازات التي نسمح بها للشركات في عالم المعلومات الجديد والغريب هذا؟
2. ما الحقوق والامتيازات التي نسمح بها للحكومات لمراقبة حياة أو أنشطة المواطنين العادية؟
3. كيف يمكن تسهيل النمو الصحي للذكاء الاجتماعي والعاطفي عند الفتيان والفتيات والشباب بحضور هذه "القوادة" أو الميديا المنحطة التي لا تتوقف فتجعلهم مدمنين عليها؟
4. كيف نعكس النقلة غير المسبوقة للثروة من الطبقة العاملة إلى الشركات الكبرى ومالكيها، واستعادة مستوى المعيشة المرتفع عند الطبقة الوسطى؟
لعلّ السؤال الأكبر الذي يحوم فوق رؤوسنا هو: كيف سنبني وندير خطابا وطنيا وعالميا يجيب عن هذه الأسئلة؟