الوعود العظمى التي أخلفتها الثورة المعلوماتية "الإنترنت" - (1 - 2)

يناقش كارل ألبرخت، المحاضر، والمستشار الإداري، والمفكر المستقبلي، والمؤلف لأكثر من عشرين كتاباً في الإنجاز المهني والأداء الشركاتي الإداري، والاستراتيجيات "البزنسية"، والذي كرمته منظمة مينسا (mensa) للأذكياء، بعضويتها مدى الحياة، مدى تلبية أو عدم تلبية الثورة المعلوماتية (الإنترنت) للوعود العظمى أو الآمال الكبار التي عُلقت عليها بعد انطلاقتها القوية منذ أواسط التسعينيات، ويصل في النهاية إلى أنها أخلفت وعودها العظمى في ثماني مسائل (t.f: w.f.s: march-april 2014) وها أنا أعرض مناقشته لهذا الأمر بتصرف.اضافة اعلان
يقول ألبرخت: يميل الإنسان إلى التخلي عن التفكير الناقد إبان الصعود المثير لحادث أو موضوع ما، مفضلاً عليه الانغماس في أحلام هذا الحادث أو الموضوع المثير الصاعد. وعندما يصحو من الحلم يُعمِل تفكيره الناقد ويصدر أحكامه على تجليات الحادث أو الموضوع وآثاره. وعندما فعل ألبرخت ذلك هاله اكتشافه للفرق بين الوعود أو الآمال والأحلام التي علقت على الثورة عندما بدأت وأخذت تنمو وتتسع، وبين الواقع.
ويضيف: لعل ثورة الإنترنت، بين أكبر الثورات في التاريخ؛ بدءا ً من الثورة الزراعية... ثم الثورة الصناعية، فالسيارات، فالتلفزيون. كانت وكل شيء رقمي جاء معها أكثر ثورة في التاريخ زادت في دقات القلب ورفعت مستوى الهرمون. لقد تحولت الموجة الثالثة كما سماها ألڤن توفلر إلى موجة مد بالميكروشب وتكنولوجيا المعلومات الرقمية التي جعلت الإنترنت والمعلومات الجاهزة على مسافة قريبة دوما ً من الإنسان، كما ارتفع رأسيا ً الطوفان التجاري للمنتوجات والخبرات الرقمية الذي حدث بين سنتي 1990-1995م. ولكننا وبعد عشرين سنة من الثورة هذه نحتاج إلى الصحوة من نشوة الافتتان بالخبرة الإلكترونية، للنظر فيما أنجزته هذه الثورة معنا ولنا ومن أجلنا.
إنه لا مثيل في التاريخ لهذا الانتشار السريع والقبول الواسع للمنتجات والخدمات والخبرات الرقمية، فحياتنا الآن تدور براحة حول الاتصال الفوري (برؤوس الأصابع) للوصول إلى عالم المعلومات، أو للتسوق، ولإدارة شؤوننا الشخصية. لقد أصبح معظم الناس في أحسن الأحوال مواطنين رقميين (digital citizens) في العالم في نصف جيل.
وبنظرة إلى الوراء نجد أن بعض أعظم الخيالات الجامحة التي روج لها فلاسفة العصر الرقمي الأولين لم تتحقق، فنحن لم نحصل على ما وعدونا به ولم نتوقع بعض ما حصلنا عليه. وللبرهنة على ذلك فإنني سأتحدث عن ثمانية من الوعود العظمى، مبينا ً ما حدث بالفعل لها، ومقترحا ً تنبؤات جديدة للمستقبل نحوها.
1. الوعد العظيم الأول: ستخلق ثورة الإنترنت إقتصادا ً جديدا ً:
سيطرت هذه النفحة أو المقولة على تسعينيات القرن الماضي الساخنة الحمراء عن كهنة الإنترنت، وأن سوقاً أوسع أو أكثر استواء وديمقراطية سيجعل كل رائد اقتصادي (entrepreneur) لديه حلم وكومبيوتر ثريا ً، وأن مصير الشركات القديمة سيكون مثل مصير الديناصورات. إنه البزنس الإلكتروني (e-business) أو لا بزنس.
الحقيقة الراهنة: لقد فقدت ثروات بالإنترنت أكثر مما صنعت. وربما بني
70 % أو أكثر من محتوى الإنترنت على أيدي متطوعين مجانيين. وتسيطر الآن على سوق الإنترنت الكبير حفنة من الشركات الاحتكارية مثل: جوجل، والأمازون، وفيسبوك، والدفع الإلكتروني (e-bay)، وتويتر، وياهو، ويوتيوب، ولنكدين، وسكايب، وعدد قليل آخر. يضاف إليها دزينة أو أكثر من اللاعبين الثانويين، بعضهم يعلو وبعضهم يهبط. ويتركز ثمانون بالمائة من بنية معلومات على الخط (on line) في أيدي شركات ضخمة، وهي أكثر احتكارية من أي احتكارية ماضية ( أي في فضاء الواقع (real space بمعنى قبل اختراع الإنترنت. يبدو أن الاقتصاد الإنترنتي أكثر شبها  بالاقتصاد القديم بالاندماجات والاستحواذات والاندثار.
أصبح من المؤلم الأكثر وضوحاً لمديري كثير من الأعمال، أن الانترنت ليس خالقا  سحرياً للربح الذي أملوا فيه. لقد تحول – فعلاً– إلى مطحنة للربح. لقد خلقت الشفافية والتسعير الديناميكي والتنافس الشديد المدفوعين بالمقارنة الفورية بين الأسعار ضغطا ً هائلا ً على الأسعار بالمفرّق وللجميع على السواء، وإذا كان ثمّة أناس يديرون شركات الطيران – مثلا ً– لديهم أمل بتجنب عقود من حرب الأسعار، فقد تبخرت هذه الآمال، بعدد لا يحصى من مواقع التسوق.
التنبؤ الجديد: سيستمر الرواد من أصحاب الأفكار والطاقات باكتساب الأرباح. ولكن أيام الانتقال من الكراج إلى العولمة ولّت في الأعم الأغلب. لكن ستستفيد بعض الأعمال الصغيرة من الخدمات البرنامجية (software) الرخيصة المتاحة. وسيصبح بزنس الإنترنت معركة مفتوحة بلا حدود حيث يحاول حيتان البزنس باطّراد غزو بعضهم حلبة الآخر، عارضين البضاعة نفسها ومسلحين بخبرة الاتصال على الخط (online experience).
2.  الوعد العظيم الثاني: ستخلق الإنترنت مجتمعاً عالمياً:
لقد ادعى الفلاسفة الرقميون في حينه أن الإنترنت ستقرّب الناس من بعضهم البعض، وسينخفض الصراع الإثني والقبلي أو العشائري، وسيتعزز الفهم والتعاون بين جميع الشعوب.
الحقيقة الراهنة: ليس الأمر كذلك، فقد سمحت الإنترنت بمزيد من الأسوار حول المجتمعات الصغيرة المتميزة، وبنحن مقابل هم. يبدو أن الميديا الاجتماعية تعمل جيدا ً في مجالات إعادة توحيد العائلة، وجمع المال السياسي، وعبادة المشاهير، وإشعال شرارة الانتفاضات، وما شابه، ولكنها لا تبدو مفيدة جدا ً في إرساء تغيير منتظم. لقد صار لمصطلح "مجتمع" (community) في العصر الرقمي، مرادفاً جديدا ً وحتى غريبا ً أو شاذا ً: إنه مجموعة الناس التي تستطيع التواصل إلكترونيا ً. لقد وفرت لنا بنية تكنولوجيا المعلومات الرقمية علاقات أكثر عددا ً لكنها أكثر ضحالة اجتماعيا ً وعاطفيا ً في الوقت نفسه.
يذكر الفيلسوف الاجتماعي الفرنسي طوكيو فيلـّي (1805-1859م) مؤلف الكتاب الشهير: "الديموقراطية في أمريكا" (1835). " أن المجتمعات الصغيرة جدا ً ظلت تتشكل وتتفكك عبر القرون في سعيها نحو عدد من المصالح الخاصة". ها هي المنابر المتاحة للوصول (online) تجعل من السهل على الواحد منها العثور على الآخر، ولكن فكرة إننا نتحول جميعا ً إلى أسرة إلكترونية كبيرة واحدة وسعيدة، تظل خاضعة للنقاش.
يجادل بعض الخبراء في أن تقبل تكنولوجيا المعلومات يعني تفتيت (atomizing) الخبرة الإنسانية أكثر منه تجميعا لها (collectivizing). بل وأكثر من ذلك فإنهم يحذرون من متلازمة الفيسبوك (facebook syndrome) التي تجعل الفتيات والفتيان والشباب مدمنين على الاتصال (online) أي على اكتساب خبرات غير حقيقية، وبالتالي غير قادرين على اكتساب مهارات الذكاء الاجتماعي، وحتى إمكانية ظهور علامات الاكتئاب عليهم. تنصح أكاديمية طب الأطفال الأميركية الآن بعدم تعريض الطفل دون الثلاث سنوات لأي أدوات معلوماتية شاشية من أي نوع. وقد يكون للعب الإلكتروني (online) الأثر نفسه. ويمكن أيضاً للاستغراق الشديد في الحياة غير الحقيقية والسلوكيات النرجسية للمشاهير المسلّين على منابر مثل تويتر، تشويه أجزاء رئيسة من بنية الحقيقة الفعلية للفتى والفتاة والشاب والشابة.
لعل الانشقاقات العدائية الحزبية سمة محددة للنشاط السياسي في زمن الإنترنت. ويبدو أنه كلما ازددنا عولمة ازددنا تمسكاً بالقبلية أو العشائرية في سلوكنا أي أنه كلما ازداد وعينا بتعولمنا ازداد سلوكنا قبلية/عشائريةـ أي تشرذما وتفتتا. وقد عبر المفكر المستقبلي جون نيسبت (john naisbit) عن ذلك بما سمّاه بمعضلة العولمي-القبلي (global-tribal paradox).
التنبؤ الجديد: ستصبح الميديا الاجتماعية بالتقدم الهائل والرخيص من المعلومات المتاحة التلفزيون الجديد (new tv) وسيحل محل الفكرة التقليدية التي تنظر بها إلى جهاز التلفزيون كحبل سُرّي لعالم الأخبار المعلنة والتسلية المستمرة، خبرة (غير حقيقية طبعا ً) ميديا موزعة في كل مكان، ليس آتية فقط من صندوق موجود في غرفة المعيشة.
لم يعد ما يسمى بالثقافة الإلكترونية أو ثقافة الميديا، مجرد مكون أو جزء ثقاف. لقد أصبحت هي الثقافة بعينها، المستمرة دون توقف لمدة أربعة وعشرين ساعة في اليوم ولسبعة أيام في الأسبوع، المليء بالتسلية، التي لا نفهمها مع أن كثيرا ً من الناس يدّعون فهمها.
يبدو أن كثيراً من الناس اليوم صاروا يعانون من إعياء عصبي رقمي، مما يجعلهم يتحولون بازدياد نحو الثقافات الفرعية القائمة على الاتصالات الشخصية الحميمة. إن بعضهم مستعد لدفع الفلوس للذهاب إلى أماكن خاصة حيث لا يمكن الاتصال بهم.
3.الوعد العظيم الثالث: سيجعلنا العصر الرقمي أكثر ذكاء:
سنضطر إلى تعلم التفكير بطرق جديدة كليا ً، وتعلم البرسسة/المعالجة (processing) أيضا ً بشكل أسرع وأكثر مهارة. وأن الوظائف الجديدة العالية الأجر لتكنولوجيا المعلومات ستحتاج إلى المزيد الناس للقيام بها، وأننا سننهض لمواجهة هذا التحدي. لقد  كانت المعزوفة كالتالي: لم تعد شهادة المدرسة الثانوية كافية للحصول على وظيفة في العالم الرقمي.
الحقيقة الراهنة: لكن ما حدث كان بالعكس تماما ً. لقد قام سحرة التكنولوجيا ببناء سوفت وير وإعادة تصميم عمليات (processes) تخفض المتطلبات العقلية المطلوبة من العاملين.
عمليا ً فإن لجميع شركات تكنولوجيا المعلومات هدفاً واحداً وهو الحصول على المزيد من النتائج أو الربح بأقل المدخلات من المواد والمهارات البشرية، أي بأتمتة تلك الأجزاء من الوظائف وعمليات البزنس التي تتطلب (معالجة) معلوماتية بشرية كالملاحظة، وتذكر الحقائق والأرقام، والحساب، والتقديرات، واتخاذ القرارات، والتخطيط، والتقدير، للقضاء بانتظام على كثير من الوظائف. وكنتيجة لذلك صارت الوظائف الأقل عائدا ً جاهزة للعمالة الأقل مهارة أو الأكثر هامشية وتوظيفية. وصارت هناك أيضا ً وظائف بمهارات متوسطة، ذات رواتب أفضل، وأناس أكثر تأهيلا ً يتنافسون على وظائف/أعمال ذات مهارات أدنى من مؤهلاتهم، فحصل إذن ضغط على الأجور للإنخفاض.
ومن السخرية أن كثيرا ً من الوظائف المهنية العالية العائد في شركات تكنولوجيا المعلومات يحذف أو تتدنى المهارات اللازمة لشغلها جراء التقدم المستمر في تطبيقات السوفت وير. لقد وصلت موازيات تكنولوجيا المعلومات القمة ثم انهارت، بتراجع المهارات اللازمة للعمل، وبإغراق السوق بمنتوجات الميديا. وعليه لم تجعلنا تكنولوجيا المعلومات أكثر ذكاءا ً [بل أكثر غباءا ً] لأنه من غير اللازم أن نكون أذكى.
التنبؤ الجديد: سوف توسع تكنولوجيا المعلومات هوة الذكاء دون أن تجعل كثيرا ً من الناس أذكى. إن الهوة سوف تتسع بين المعرفيين النشطين عقليا ً الذين يتعلمون ذاتيا ً وبين غير المعرفيين أي الناس الصامتين/السلبيين عقليا ً المستمرين بتفضيل خبرة الهرب أو التسلية والترويح على ذلك. أما المدرسة فلن تستطيع سوى القيام بالقليل لسد هذه الثغرات.
سوف يسيطر المعرفيون على المنتوجات والخبرات الرقمية لتحقيق أهدافهم في الحياة. أما بقية الناس من أصحاب الوسائل المتواضعة فبإمكانهم الاستفادة من الموارد التعليمية الرخيصة المتاحة للتعلم الذاتي (do- it- yourself) للتغلب – إلى حد ٍ ما– على الحواجز التي تقف في طريق التحسن الاقتصادي.
4. الوعد العظيم الرابع: سينقذنا الجيل الرقمي مما نحن فيه:
لقد جعلونا نتوقع ظهور جيل جديد من أذكياء التكنولوجيا. جيل أذكى من آبائه يستطيع أن يدير العالم بصورة أفضل وأذكى من الجيل الذي فرّخه.
الحقيقة الراهنة: إن جيل اليوم ليس أذكى. إنه ذكي في الكبس على الأزرار أو لمسها، لكن قلة منه تفهم أو تعرف ما يجري داخل الهواتف الذكية [وكأن كلا ً منها صندوق اسود].
لقد أصبح للتلفونات الخلوية وجملة المنتوجات الرقمية الأخرى شعبية قوية فقط بعد ما عرف المهندسون كيفية تصميمها وبحيث يمكن للقرود استخدامها... إن الجيل الجديد ليس أذكى منها. إنه مجرد مستهلك مفتون ومنتبه قوي (للخبرة) الجديدة التي يحب يستطيع كل راشد تعلـّم كل شيء يعرفه الفتى أو الفتاة الذكي من تكنولوجيا في بضع ساعات. لا دليل قوي أن خريجي المدرسة الثانوية اليوم أصبحوا أذكى وأكثر معلمانية أو وعيا ً اجتماعيا ً من أي جيل ٍ سابق، بغض النظر عن الانتباه أو الإعجاب الناعم بين الذي يبديه المراقبون الاجتماعيون، ففي استبانة لحساب المجلة الجغرافية الوطنية الأمريكية (national geographic) تبين أن 63 % ممن هم بين سن 18-24 لم يستطيعوا تحديد موقع العراق على الخارطة. لا يرى نصفهم أنه مهم تحديد الأقطار على الخرائط. وبالمقابل قال 62 % منهم إن امتلاك مهارات كومبيوترية ضروري للنجاح في عالم اليوم.
لا تزال الجامعات الأمريكية تملأ كليات العلوم والهندسة بالطلبة الأجانب [وبخاصة الصينيين والآسيويين] مقابل ملا يين الأطفال الذين يقضون بلايين الساعات في ألعاب الكومبيوتر على الخط (online) ويتفوق كثير منهم فيها. لا يوجد دليل قاطع يؤيد الادعاء أن الإدمان على هذه الخبرة  [السرابية] يجعلهم أكثر ذكاء من الذين لا يلعبون، أو أكثر كفاءة في شيء ٍ آخر مفيد.
وفي تفسيره لفشل احتجاجات الشوارع التي تدفع شبكات التواصل الاجتماعي إليها ضد سياسات الحكومات، ومن أجل التغيير يقول موسى القيم في مجلة ذا أتلانتك 4/2014 (جريدة الغد في 17/4/204): من المؤكد في عالم اليوم أن يستقطب قبول الاحتجاج عبر تويتر أو الفيسبوك أو الرسالة النصية، جمهورا ً، وبخاصة إذا كان الاحتجاج ضد شيء ما – أي شيء حقيقي – يثير حفيظته . لكن المشكلة تحدث بعد المسيرة حيث تنتهي إما بمواجهة عنيفة مع الشرطة أو بالفشل. ويفسر ذلك بغياب تنظيم يعمل على استدامة الاحتجاج أي متابعة مطالب المحتجين والقيام بالعمل السياسي المعقد وجها ً لوجه بحيث يؤدي إلى تغيير اجتماعي، النقطة التي بينتها زينب توفكجي – الزميلة في مركز تكنولوجيا المعلومات في جامعة برنستون – والتي تقول: "قبل الإنترنت ساعد العمل المتعب في التنظيم الذي كان مطلوبا ً للإلتفاف على الرقابة أو لتنظيم احتجاج أيضا ً في إنشاء بنية تحتية لصنع القرار ووضع الاستراتيجيات لإدارة الزخم. الآن أصبح بوسع الحركات أن تندفع متجاوزة تلك الخطة وغالبا ً لما يعيق تقدمها". ويضيف: مع أن المحرك السياسي مفعم بالقوة في شوارع العديد من المدن، وينتج الكثير من الطاقة السياسية لكنه غير مثبت على إطارات [عجلات].
أعتقد أن هذه الحالة هي انعكاس للخبرة السرابية (الزائفة) لمن يعمل بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية، فالنقر على أيقونات الحاسوب أو عدمه تقوضان العمل السياسي عبر خلق سراب الإحساس الجيد... أو التغريد برسائل ملتهبة من لوحة الحاسوب أو الهاتف الذكي معادل للنشاط (الحقيقي) الذي يحدث التغيير. إنه مجرد التجسيد الأحدث للسراب الخطير المتمثل في أنه يمكن الحصول على الديموقراطية من دون أحزاب سياسية، وأن احتجاجات الشارع المستثارة بالإعلام المجتمعي أكثر منه بالتنظيم السياسي هي الطريقة لتغيير المجتمع". ولتأكيد صحة هذا التفسير أجرى أنديرس كولدينج يورغنسين – أستاذ في جامعة كوبنهاجن الدنماركية – تجربة دعى فيها الناس إلى الاحتجاج على نية ردم نافورة تاريخية في حي رئيسي في العاصمة الدنماركية، فاجتمع عشرة آلاف شخص في الأسبوع الأول. وبعد أسبوعين صار عدد المحتجين نحو سبعة وعشرين ألفا ً، مع أنه لم تكن ثمة خطة لردم النافورة، وإنما أراد الباحث بيان مدى سهولة خلق مجموعة كبيرة نسبيا ً من خلال استخدام شبكات التواصل الاجتماعي.
[ولعل الضجة الرقمية التي قامت في الأردن ضد وضع إشارات مرورية على الدوار السابع دليل مع  أن الدواوير هي أسوأ تنظيم مروري ، إلا أن واحدا ً أو اثنين بدءا في الندب والسب حتى جرّا مئات ورائهم لا يدرون لم انجروا سوى للاحتجاج والرفض لأنه أفضل للنفس قول لا من قول نعم].
[وبتطبيق هذا التفسير (غياب الأحزاب في العصر الرقمي) على الواقع السياسي العربي والإسلامي نجد أنه لا حزب أو جماعة حتى الآن أكثر تنظيما ً غير حزب أو جماعة الإخوان المسلمين، بل أن الأحداث في مصر كشفت عن امتلاكهم بنية عسكرية تحتية منظمة قادرة على مناكفة الحكومات والأنظمة وربما التغلب عليها].
[غير أن هناك سببا ً آخر لانهيار الأحزاب السياسية في كثير من البلدان النامية، وهو غياب الاستقطاب الآيدولوجي الذي كان سائدا ً إبان الحرب الباردة بين الشرق والغرب. لقد حلّ محلها ما يسمى بالمجموعات الضاغطة التي سرعان ما تتشكل ربما عبر التواصل الاجتماعي وسرعان ما تتلاشى وهكذا].
التنبؤ الجديد: سيظل المنحنى الاعتدالي يعتمد على الأفراد وعلى البيئات المكونة لهم، وبدرجة أقل على التكنولوجيا المعلوماتية، التي سوف توسع الفروق الفردية بين الأطفال ولا تضيقها، ولن يغير إعطاء كومبيوترات محمولة للفقراء تلك الثقافة المتضمنة لميزات لأطفال دون أطفال آخرين، ومن المحتمل أن تستمر المدارس العامة في أمريكا في مسيرتها في تكوين تلاميذ وتلميذات متوسطي القدرة تاركة ً معظمهم يبحثون عن التعلم بطرقهم الخاصة. ولكن هل سيخرج النظام الرقمي قادة أفضل من قادة الأمس؟ إن الدليل ضعيف عليه. عالميا ً أو عولميا ً سيتغير الأطفال في البلدان الغنية بالتكنولوجيا أكثر وأكثر من الأطفال في البلدان الفقيرة حيث توافرها أقل. إن الظروف الاجتماعية والاقتصادية توسع الهوة الرقمية [بين الأفراد والشعوب والدول].
5. الوعد العظيم الخامس: ستضيق التكنولوجيا الرقمية هوة الثروة:
كان الأمل كذلك أن كل جرعة إضافية منها ستوفر حياة أفضل، من مثل مجانية التعليم ووفرة المعلومات ومجانيتها.. وستحرر الفقراء من الظروف المكبلة لهم وستخلق وظائف أكثر، وعمالة أكثر من غيرها، وتوزيعا ً أعدل للثروة، وطبقة وسطى رقمية ستزدهر على نحو لم تبلغه من قبل، بل وأكثر من أي وقت ٍ مضى، فإن تعليما ً جيدا ً سيكون بمثابة تذكرة أو بطاقة المرء إلى الحفلة.
الحقيقة الراهنة: تبدو التكنولوجيات الرقمية  - وفي تناقض ظاهري – وقد وسعت هوة الثروة أكثر من أية ظاهرة اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية أخرى. وربما كانت هذه النتيجة من المفاجآت الكبرى للمجتمع الرقمي. كان يجب علينا رؤيتها وهي تحدث، ولكن معظمنا لم برها.
لقد رفع استثمار الشركات الكثيف في إدارة هذا  المشروع (الرقمي) الإنتاجية والأرباح إلى أرقام قياسية. وبينما تجني الشركات الرقمية بعمالة أرخص فلوسا ً أكثر، وتتدفق الأموال في جيوب المديرين التنفيذيين الذين يديرونها وجيوب المساهمين فيها، بقيت الأجور الحقيقية على حالها لنحو عقدين بدءا ً من الانفجار المهيب للإنترنت سنة 1995م. لقد وصلت أرباح الشركات الرقمية ورواتب المديرين التنفيذيين وعوائد استثماراتها عنان السماء. وتدل تقارير ميديا بلومبيرغ أن نسبة معدل رواتب المديرين التنفيذيين لأكبر خمسمائة شركة في العالم، إلى معدل أجور العمال قفزت من عشرين إلى واحد سنة 1950م إلى مئتين إلى واحد حاليا ً.
وتبين دراسة عالمية محايدة أن إجمالي إيرادات الشركات المستحوذة على هذه التكنولوجيا بلغت نهاية العام الماضي (2013م) أكثر من أربعماية وسبعة بليون دولار  (407.3 بليون دولار) مقابل أكثر من ثلاثماية وثمانية وثمانين بليون دولار في العام السابق (388.5 بليون دولار) جريدة الغد في: 15/4/2014م).
التنبؤ الجديد: سوف تستمر هذه الثروة في الاتساع إجمالا ً إلى أن تصبح آثارها حادة بركود الأجور، وخسارة الطبقة الوسطى لفرص العمل، وندرة الفرص للشباب المتعلـّم. وعند هذه المرحلة ستقوم الحركات الشعبية بممارسة ضغوط شديدة على الحكومات لتبني سياسيات اقتصادية وآليات ضرائب تعيد ترتيب الساحة. وقد تتسبب الجماعات الناشطة، بما في ذلك التي تدافع عن المصالح الأجنبية وجماعات العمّال، وجماعات الإصلاح الاجتماعي بالفوضى المدنية. وقد يندفع كثير منها إلى تبني العنف المنظم للترويج للإصلاحات المطلوبة. وستصبح مساءلة الشركات والمسؤولية الاجتماعية كلمات السر السياسية. وسيجد المشرعون أنفسهم في مهب ريح قوية لتفضيلهم مصالح الشركات التي تتبرع لهم في حملاتهم الانتخابية ليعملوا ضد مصالح الدوائر الانتخابية الأعلى صوتاً.