الوغد الذي رحل..

في وداع محمد طمليه

منذ ما يقارب العامين أقمنا له في حديقة بيت تايكي التابع لأمانة عمان الكبرى حفلا تكريميا استباقيا، في محاولة لكسر القاعدة المتفق عليها ضمنا بتكريم الغائبين حصريا؛ وكأن وجودهم فوق هذه البسيطة يعرقل الاعتراف بمنجزهم، لذا فإن عليهم الموت أولا كشرط أساسي للحديث عن مناقبهم والتغني بمآثرهم، كونهم لم يعودوا قادرين على تفنيد أو تأكيد أي من الاختلاقات التي قد يقدم عليها أحياء تحت وطأة ألم الفراق، أو بهجته الدفينة في أحوال كثيرة! فيصبح "المغدور" عرضة لأشكال الافتراء كافة غير المنصوص على أية عقوبات رادعة ضد مقترفيها!

اضافة اعلان

في ذلك اليوم غص الدوار الثالث في جبل عمان وشارع سمير الرفاعي المؤدي إلى بيت تايكي، بجمهور غير مسبوق من حيث العدد ومقدار التنوع: مثقفين، وعامة، وبرجوازيين، وطلاب، ومعدمين، ووزراء عاملين وسابقين، وسفراء، وإعلاميين، وفنانين..، والكثير الكثير من الصبايا اللواتي كان يصفهن بالمخدوعات بضرورة الفن.

وكانت حليمة، أمه الراحلة قبله، في مقدمة الحضور بثوبها الفلاحي كثير التطريز، وتلك الزغرودة التي أطلقتها في خطوة غير متوقعة، زهوا بفتاها المفضل.

محمد اعتبر "التأبين" كلاسيكيا مضافا إليه تفصيل إجرائي بسيط أن "المتوفى مع وقف التنفيذ" كان بين الحضور. واجهنا نحن منظمي الحفل صعوبة جمة في ابقائه جالسا برصانة واتزان بحسب ما يقتضيه البروتوكول بالقرب من راعي الحفل فيصل الفايز، المشهود له باعتنائه الحثيث بمحمد من موقعه كرئيس للوزراء، فكل من يعرف طمليه يعرف كم كان نزقا سريع الملل، نمرودا رافضا لكل ما هو تقليدي.

في ذلك الحفل، غير المهيب، ألقيتُ كلمة، اتفقت مع محمد على نشرها إذا ما ظل مصرا على فكرة الموت، ويا أصدقاء ومحبي ذلك الوغد الجميل، كنت أتمنى لو ظل محمد بيننا، وظل الوعد معلقا؛ ولكن تاليا الكلمه اياها:

بعد أن تناول جرعة أخرى من الكيماوي ها هو محمد طمليه آت من المدينة الطبية مباشرة إلى بيت تايكي، إلينا جميعاً محبي هذا الصعلوك الأصيل، لنتلقاه معاً بجرعة أخرى ليست لها أية أعراض جانبية، سوى طاقة هائلة من الدفء نحيط بها ارتجافة روحك الفذة وبضعة اقتراحات: عليك يا محمد بمزيد من العناد والتشبث، نطالبك بمزيد من السخرية على اختلاف ألوانها، فأنت عرابها وأنت من كرستها سوداء ناصعة كبياض حضورك في قلوبنا.

جرعتنا هذه أكثر جدوى من كيماويات الدنيا، فقط لو أدركت جيداً كم نحبك، وكم نكترث، وكم نحزن لو أنك قررت الكف عن نزقك الجميل متذرعاً بحجة واهية كسرطان عارض!

أنت بالضرورة أكثر قوة وأخف ظلاً منه، وإن كنت تشبهه من حيث قدرتك الاستثنائية على التفشي في وجدان كل من عرفك، بفارق بسيط جدا، هو أن أحداً لن يفكر قط بمكافحتك أو الحد من أسباب انتشارك، ولن تلزم وزارة الصحة أحداً بوضع صورك على علب السجائر، ولن تسبق اسمك إشارة خطر الحب التي تم تجاهلها بكل إصرار وترصد من قبلنا جميعاً، فلا تقابل يا ابن حليمة محبتنا لك وحرصنا على استبقائك إلا برغبة خالصة في دحر عدوك الغاشم، والحد من مطامعه التوسعية، ولتعلن روحك منطقة منزوعة من اليأس، وخالية من أسباب التراجع الشامل.

لا تقلق كثيراً بسبب تساقط شعرك، فلم يكن ليضيف شيئا، وقد غزاه الشيب، ولن يكون بإمكانك أن تنافس أحداً في حقل الجمال. وإنْ شئت صراحة أكبر، علينا أن نعترف، أيها الصديق، أن الوسامة ليست من أهم صفاتك، وذلك لم يحل يوماً دون وسامة روحك المشربة عشقاً للحياة التي ستستطيع إليها سبيلا، محفوفا بصلواتنا أن يظل قلمك شاهد عيان على الآتي من أحلامنا، ولتظل علامة فارقة في فضاء الإبداع كقاص لم تلد الأمهات منه الكثير، وحين يحكى عن كتّاب تمكنوا من اقتناص أوجاع المعذبين، ستكون كبيرهم الذي علمهم السحر.

..أما عباءتك، يا طمليه، فلن يخرج منها إلا كل ما هو مدهش وأصيل.

[email protected]