"الوكالة".. إلى أين؟!

يتحدث معظم أبناء اللاجئين الفلسطينيين عن خبرة التعلم في مدارس "الوكالة" بامتنان خاص؛ فقد زودتهم تلك المدارس بالمعرفة الأساسية ليشقوا طرقهم في الحياة، وتلقوا فيها تعليماً مميزاً نسبياً، مجانياً، ومعه الكتب والقرطاسية و"زيت السمك". وكان معلموهم أيضاً من اللاجئين الذين حرصوا، بدافع المعاناة المشتركة، على بذل كل ما لديهم للصغار الذاهبين إلى مستقبل مجهول. وربّما يفكّر المرء أيضاً في "الإعاشة" الشهرية التي كانت تسدُّ، على شُحّها، شيئاً من عوز الأسر التي وجد أربابها أنفسهم فجأة أمام قسوة البدء من الصفر.اضافة اعلان
الفضيلة الكُبرى التي تُسند للوكالة، والتي جاءت عرَضاً، هي الاحتفاظ بقيود لكافة اللاجئين الفلسطينيين وأنسالهم، منسوبين إلى قراهم الأصلية. والآن، يحتفظ كلّ فلسطيني ببطاقة الإعاشة التي أصدرتها وكالة الغوث باعتبارها سند تسجيله فلسطينياً، ووثيقة إثبات حقه في أرضه المصادرة. ولا يمكن تصور حجم الكارثة التي يمكن أن تحصل في حال ضاعت تلك الوثائق، وربما يجدر هنا اقتراح أن تتولى جهة عربية فوراً (جامعة الدول العربية مثلاً، على علاتها) مهمة نسخ وتوثيق قيود اللاجئين الفلسطينيين. ومن الناحية العملية، يعني تمييع الوكالة احتمال إسقاط صفة "لاجئ" المُمِضَّة، والضرورية مع ذلك، لكل فلسطيني.
على السطح، بدا صنيع "وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين" إنسانياً خالصاً، فماذا أرفَعُ من إغاثة الملهوف وتشغيل المحتاج؟ لكنّ مكرَ إدارة العالم المعاصر يضع كلّ شيء في دائرة الظنون، ومنه مسألة "الوكالة". والشبهة الأولى والأساسية في مشروع الوكالة، تتعلق بتَبَعيّتها. والمالِك في حالة "الوكالة" –نظريا- هو البشَرية كافة، ممثلة في الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. أما في التطبيق، فهي جزءٌ من الأمم المتحدة، التي تبدو بوضوح شركة مملوكة للولايات المتحدة، المملوكة بدورها للنخب القوية وجماعات الضغط، وفي مقدمتها اللوبي الصهيوني النشط هناك.
إذا كانت الأمم المتحدة، بهذه الكيفية، جهة فاقدة للمصداقية ومزدوجة الخطاب، خاصة فيما يتعلق بالفلسطينيين، فإنّه ليس ثمة ما يدعو إلى الثقة في إحدى أذرعها. وفي هذا السّياق، ثمّة كل منطق في الرأي القائل بأن "الوكالة" أنشئت أصلاً لغرض أساسي: تيسير توطين اللاجئين الفلسطينيين في المناطق التي لجؤوا إليها. وتمكن قراءة جهود الوكالة، من توفير الخيام، إلى الإعاشة والتعليم والتشغيل، في إطار توفير الظروف لأبناء اللاجئين حتّى يتدبّروا أمر عيشهم في المنافي، ولا بأس بأن يستقروا مادياً ونفسياً، ويعتمدوا على أنفسهم فيقلّ إلحاح حاجتهم إلى العودة ومطالبتهم بها.
فهل تحسُّ "الوكالة" أخيراً بأن هذه المهمة أُنجزت؟ كنّا قد شهدنا تقليص خدمات الوكالة باطراد، بسبب خفض أصحابها مخصّصات تمويلها. ثم التفتنا باستغراب مؤخراً إلى توجه الوكالة المُريب إلى فرض تدريس "الهولوكوست" اليهودي للطلبة الفلسطينيين. أما آخر شيء، فكان محاولة الوكالة تغيير اسمها، لتُسقط منه التشغيل والغوث. وتقوم المؤسسات أحياناً بتغيير شعاراتها، لكنّ ذلك يكون إما لتغيُّر المالِك، أو لتغيير طبيعة النشاط، وربّما لمواكبة الحَداثة. ويبدو المسوِّغان الأولان أقرب احتمالاً، كأن تكون مُلكية الوكالة آلت تماماً لمشروع مصادرة فلسطين، وأعيدت هيكلة النشاط ليناسب المرحلة الجديدة بعد الاعتقاد بإنجاز غاية توطين اللاجئين، وإمكانية شطب سجلات اللجوء.
كان ينبغي أن تتمثل إغاثة اللاجئ، بالنسبة لهيئة في حجم وقُدُرات الأمم المتحدة، في إعادته إلى محيطه الحيويّ. وفي الحقيقة، تفعل منظمات بيئية صغيرة ذلك، بإمكاناتها المتواضعة، فتعيد إلى مواطنها تلك الكائنات التي يُلجئها حدَث قاهر إلى غير بيئاتها. ولم نشهد الوكالة تفعل ذلك في حالة الفلسطينيين؛ ربما لأنها أخرجتهم سلَفاً من فئة الكائنات. ويبدو أن التشغيل والإغاثة كانا حقاً يُراد به باطل. والآن، في هذا الوقت الحرِج، ربّما يَدفعُ أصحاب الوكالة بها إلى الخروج سافرة، بلا مساحيق، لمحاولة شطب حقّ العودة بالتحديد، والانسحاب من المشهد مع فكرة اللجوء التي يستند إليها هذا الحق.
إن تشغيل الفلسطينيين وغوثهم ليس منّةً ولا صدقَة، وإنما هو حقّهم على الوكالة بوصفها ممثلة للعالم، وكذلك توثيق حقهم في العودة -كلاجئين- الذي ارتبط موضوعياً باسمها. أما الوجهة المفترضة للوكالة، فإنجاز غايتها المنطقية: إغاثة اللاجئين الفلسطينيين بإلغاء واقع لجوئهم ودواعيه، وليس الدفع لإسقاطه في ثقب النسيان.