اليقين واللايقين

حسني عايش استمر اليقين قائماً أو ثابتاً في حياة البشر طيلة التاريخ، ولكنه أخذ يهتز أو يتغير ببطء بعد اختراع الطباعة، ونهاية عصر اقتصاد الكفاف أو الاقتصاد المختلط، وبداية الثورة الصناعية كان اليوم قبل ذلك نسخة عن الأمس، والغد نسخة عن اليوم، وكل جيل نسخة تكاد تكون طبق الأصل عن الجيل السابق. وكان الزمن بطيئاً وفصلياً (من فصول السنة) وطويلاً. وكانت الأمور واضحة، والتعلّم بالتلمذة الصناعية (أي بمرافقة الحرفيين) والتعلّم في المدرسة يعكسان ذلك. لقد ظل اليقين في العالم المعاصر وفي فترة الحرب البادرة في الذات الممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية وانهيار الاتحاد السوفيتي قائماً والأمور واضحة، فأنت كنت حينها اما معه الشرق، أو مع الغرب، أو محايداً إيجابياً أو سلبياً. ولكن الأمور سرعان ما تغيرت نحو اللايقين بانهياره، وبالعولمة التي تلته، وبالتكنولوجيا الرقمية، وبتغير أساليب ووسائل الاتصال والتوصيل ولعمل والانتاج والاعلام المتلاعب بالعقول، والتوظيف. لم يعد اليوم نسخة عن الأمس ولا الغد نسخة عن اليوم، ولا الجيل نسخة عن الجيل السابق، كما انتهت فصول السنة عملياً بوسائط النقل العالمية البرية والبحرية والجوية المبردة. واللايقين الناشئ وكل يقين يؤدي إلى القلق، والقلق أنواع، وهناك القلق الفكري وهو محمود، وهو قلق المفكرين والفلاسفة، وهناك القلق الوجودي وهو الإحساس بأن المستقبل أو البقاء غير مضمون، وهناك القلق المرضي الناجم عن مرض مستعصي ومهدد للحياة، وهناك قلق الامتحان الناجم عن خوف الفشل فيه، ومثله قلق المقابلة للتوظيف الناجم عن الخوف من الفشل فيها وضياع الفرصة، وهناك قلق اللايقين الناجم عن الحيرة أو عدم وضوح الصورة المحلية، أو الإقليمية، أو العالمية، كما هو حاصل اليوم وبخاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وهكذا… وقد أطلق بعضهم على هذا العصر القلق بعصر ما بعد الحقيقة لضياعها بالتظليل الإعلامي والتضليل العلمي الذي تحدثت عنه في كتاب خاص بهذا العنوان. في وضع كهذا يطلب الناس القلقون النجدة من الدين حيث اليقين واضحا والأجوبة جاهزة فيهدأون. ويشتد التمسك بالدين والغلو فيه أحياناً طردياً مع اشتداد اللايقين، وقد يتحول إلى عنف وإرهاب عند بعضهم رفضاً للايقين واسترجاعاً لليقين الشارد. لم يعد بالإمكان التخطيط لسنة فكيف لثلاث أو لخمس أو لعشر؟! أي لم يعد بالإمكان التخطيط بإسقاط الماضي أو الحاضر على المستقبل كما كنا نفعل في الأمس. كما صارت الحياة أو إيقاع الحياة سريعاً، وتبدو قصيرة على الرّغم من أعمار الناس التي صارت تطول. قلت لمحدثي المتحمس لنقد الدين: مهما كان موقفك من الدين، أي دين، في بلد غير ديمقراطي وغير علماني رسمياً وشعبياً فلا فائدة سياسية من نقده. بل بالعكس، إنه يلحق أكبر الضرر بالناقد ويعرقل التقدم نحو حرية التعبير، وأعلم انه لا توجد قوة على سطح الأرض تستطيع تعديل نص ديني في الكتاب المقدس، أو تغييره. وأضفت: تذكر يا أخي كيف عجزت الحروب الدينية، والثورة الفرنسية، والشيوعية في أوروبا عن ذلك، فلا تتعب نفسك فيه وإن قيل لك أو قرأت يوماً لعلماء الاجتماع الديني أن جميع الأديان من صنع الإنسان. اترك هذا الموضوع للمفكرين والفلاسفة…، فأنت لست بحاجة إليه كحزبي علماني أو شخص سياسي. لعلك تقارن أوروبا وأميركا واستراليا… في نقد الناس هناك للدين المسيحي دون أن يترتب على الناقد أي رد فعل أو تهديد، فهي بلا ديمقراطية وعلمانية. وحتى عندما ينكر بعضهم ألوهية المسيح أو يسخرون منه بل ويسيئون إليه في كتاب أو فيلم، فإنهم لا يخشون الكنيسة هناك او هجومها عليهم بالحديد والنار. إنها تكتفي بالرد عليهم وتترك للناس تقدير الموقف. يقول المفكر الفرنسي فرانسوا ريفل في كتابه الديمقراطية ضد نفسها: Democracy Against It Self: لقد أصبح التسامح عند المسيحية هو القاعدة منذ مدة طويلة. إن كثيراً من الأدب الغربي، والمسرح الغربي، والسينما معاد للمسيحية، ومجدّف أو كافر من وجهة نظرها. لكن الكنيسة والسلطات العلمانية ادانت رد الفعل العنيف من بعض المسيحيين على فيلم: «الإغواء الأخير للمسيح» Last Temptation Of Christ لمؤلفه مارتن سكوروسي، على الرغم من رفض الكنيسة له. نعم، كانت الكنيسة غير متسامحة لمدة طويلة لكن من المسلم به اليوم [في الغرب] أن العالم الحديث – نتاج قرون عدة من التطور والمؤسس على الإعلام العالمي لحقوق الإنسان – لا ينسجم مع اللاتسامح الديني أو اللاتسامح لأي عقيدة أو مع اي ممارسة تنتهك حقوق الإنسان». لم تصل البلاد المسلمة والاسلامية بعد الى هذه المرحلة. ما تزال في العصور الوسطى الأوروبية فكراً ودينياً بدءاً من فرج فوده والذهبي وانتهاء بناهض حتر والحبل على الجرار، فلا تنتقد الدين الإسلامي إلا إذا كنت مستعداً للموت، لكنك تستطيع استخدام بعض نصوصه لنقد رجال الدين أو السياسيين الإسلاميين عندما يخالفونها في خطابهم، أو في سلوكهم، او في مواقفهم، فاقبض عليهم حينئذ متلبسين. ولما كان الأمر كذلك فتعمق في دراسة الدين او الأديان واعرفها اكثر منهم، فعندئذ قد تستطيع بتحديهم بها تغيير الخطاب، او السلوك، أو المواقف، وحتى يمكن أن تجرهم نحوك. لقد مر الغرب في هذه المرحلة القرووسطية. وتجاوزها بعد عدة قرون من الكفاح الفكري والسياسي ولكنه لم يعدل النصوص الدينية أو يغيرها، بل غير عقلية الناس. المقال السابق للكاتب اضافة اعلان