امرأة فقدت ضروسها!

حين بدأت تخبرني بقصتها، لم يخطر ببالها أن تستحضر شاهدا على صدق حديثها، إلا ضرسها المخلوع منذ سنوات طويلة، ويظهر مكانه الفارغ واضحا بمجرد أن تفتح شفتيها لأي شيء إلا الابتسامة.اضافة اعلان
وهي تروي قصتها التي تعتقد أنها فريدة من نوعها، حول خيانة زوجها كما تقول وزواجه بامرأة أخرى، تحاول أن تؤكد أن الموضوع ولو أنه أصبح مكررا لحد الاعتياد، إنما ومن وجهة نظهرها البائسة للحياة تعتقد أن تفاصيلها الخاصة بالتضحية والإيثار والصبر على الضنك والتعب، تجعل من حكايتها استثنائية!
ربما لا تحتاج "وفاء" إلى كل تلك المسوغات لتعرف أنها استثنائية بالحتمية الطبيعية، كونها ما تزال تقف على قدميها بعد أن سمعت بأذنيها كلامه عنها وعن ضعفه أمامها الذي لا يقدر عليه. وعندما رأت بكاءه كطفل صغير بين يديها يستجديها السماح والعذر لعشقه المجنون كما يقول لها وهو ينظر إلى عينيها مباشرة، ويؤكد أنه مكبل بكامله لحب المرأة الأخرى!
تقول وفاء إنها قضت مع زوجها ثلاثين عاما كاملة، لا تتذكر فيها مرة واحدة بكى من أجلها أو لأجلها، لا وهي تلد لهما أولادهما الأربعة، وتقف على قدميها من اليوم الثاني تتابع شؤون البيت لكي لا تحمله معروفا من أحد يضطر بعدها لرده  بشكل يمكن أن يكلفه ماديا ومعنويا، ولا حين كسرت ساقها بينما كانت تمسح السقف قبل العيد الصغير، ومن ثم مارست الحياة بشكل اعتيادي حتى لا تكسر خاطر الصغار وتضيع على أهله تحديدا طقوسا لا تقبل للخدش، ولا حتى رأت دمعة من عينيه عندما فقدت ضرسها الأول والثاني والثالث، وامتنعت أن تعالج أيا منها توفيرا لبضعة دنانير كانوا بحاجة لها، قبل أن يفتح الله عليه بعدها بسنوات ويصبح من التجار الكبار.
لا تتذكر السيدة المكلومة بسنوات عمرها العجاف، يوما أرهقت فيه فكر زوجها بطلب من هنا أو أمنية من هناك، من التي تحبها النساء. فعمرها كله وميزانيتها الصغيرة وجهدها وسهرها كانت في الخمسة والعشرين عاما، قبل الانفراج والانفتاح، مكرسة في خدمة الأولاد والبيت والزوج، حتى ولو على حساب صحتها، التي كانت تداويها بكوب بابونج مغلي أو ملعقة طحينية من خزانة المؤن.
طلبت منها أن تصف لي المرأة التي خطفت منها زوجها، بعد أن تجاوز الخمسين من عمره، قضاه كما تقول بين العمل والبيت، بدون أصحاب ولا رفقة ولا رحلات ولا نزهة، حرمته إياها وقتها ظروفه الصعبة. فقالت بدون تردد إنها سيدة غير جميلة أبدا، ولكنها بصراحة مرتبة وأنيقة، رغم حالتها المادية المدقعة في الفقر، لدرجة أنها حين قدمت إلى حيهم كان السكان يجمعون لها ولأولادها الطعام والمال والملابس. تفاصيل لربما تبدو غريبة بعض الشيء بالنسبة للسيدة التي تبكي على حياة مضت في القهر والصبر والحلم بيوم أفضل، لا تعلم تلك المسكينة أن الرجال بطبعهم حتى ولو أنهم يقدرون التضحية والصمت، لكنهم وحين يتعلق الأمر بالمرأة فإنهم يفضلونها بطقم أسنان كامل!
ولتقس على ذلك الأمور كلها، فالمرأة قوية العزيمة عزيزة النفس يقولون فيها شعرا، بل ويعايرون بها نساءهم الكسولات. إنما عندما يأتي الدور عليهم فإنهم يعشقون المستكينات الضعيفات والمحتاجات لهم ولذكورتهم البدائية ولو على سبيل التمثيل والادعاء.
لم أستطع أن أوقف دموع امرأة خمسينية تتوجع طعنات تلقتها في الصدر والبطن والظهر، فهي وإن كسبت ثوابها وأبناءها وسيرتها الطيبة، ما تزال تظن أنها الخاسرة الوحيدة في لعبة الحياة.