انبعاث قانا الجليل

كثير من صور الوطن الفلسطيني المحتل العام 1948، هي نتاج ذكريات ومُذكّرات لاجئين منذ ما قبل النكبة؛ مثل ما كتبه مثلا شفيق الحوت (1932-2009) عن شبابه المبكر في يافا وحيّ العجمي، وكتاب "ما قبل الشتات" لوليد الخالدي. وقليلة هي الأعمال التي تصف حياة من بقوا في الوطن، وقليل اهتمام الإعلام بهم، ومعدوم اهتمام السياسيين تقريباً.اضافة اعلان
كنت أجلس في عيد الفطر، العام الماضي، في مقهى بساحة المهد في بيت لحم. وأشرت لصديقي من مخيم عايدة، أنّ الاكتظاظ جميل و"السياحة منتعشة"، فأشار أنّ جزءا كبيراً منهم من فلسطينيي الأراضي المحتلة العام 1948. استغربت؛ فالشائع ذهاب أهالي "الضفة" إلى البحر وفلسطين الساحلية كُلما وجدوا سبيلاً. وكان الحديث أنّ قضايا الهوية والشعور بالانتماء والتماهي مع أغلبية فلسطينية، تُريح أهالينا في أراضي "الاحتلال الأول"، ليأتوا للسياحة.
ما حدث عقب مقتل خير حمدان، فجر السبت الماضي، في كفر كنا في الجليل الأسفل، إيذانٌ بتغير إضافي في واقع أراضي الاحتلال الأول الفلسطينية.
عندما قدّم شفيق الحوت في يافا امتحان الثانوية العامة في اللغة العربية، العام 1948، كان ذلك في اليوم التالي لاستشهاد شقيقه "جمال"؛ الناشط في المقاومة حينها، تحت قيادة ضابط سوداني يعرف باسم "طارق الأفريقي". جاء الحوت للامتحان بتشجيع أصدقائه، ومنهم إبراهيم أبو لغد. كان موضوع الإنشاء "أكتب عن حادثة هزتك".
بعد الامتحان، انطلق شفيق وأصدقاؤه للجنازة، ومنهم إبراهيم، ووري جمال ثرى مقبرة على ربوة خصبة تُطِل على البحر، أغلقها الاحتلال وفُتحت استثنائياً العام 2001 بضغط جَماهيري، لِتَضُم إِليها "عاشقاً ليافا"، أبى إلا العودة للوطن وأن يُدفَن فيه، هو ابراهيم أبو لغد نفسه، الذي صار أكاديميّاً في الجامعات الأميركية قبل عودة بعد نصف قرن من الشتات إلى جامعة بيرزيت، حيث يحمل معهد الدراسات الدولية في بيرزيت الآن اسمه.
قُتل خير في زقاق، في كفر كنا، حيث تسكن عائلته. بدأ الأمر باستفزاز الشرطة للأهالي والشاب أثناء اعتقالهم قريبه بعد شجار عادي. وتقول سيدة ذهبت للعزاء: أذهلني المكان كم هو محاط بالسكان، وشعرت بالرعب وأنا أشاهد أثر رصاصة أطلقتها الشرطة باتجاه شاب راقب الحدث من شُبّاك قريب؛ وأنا أشاهد (في فيديو) الشاب يهرب من الشرطة فيقتلونه بدم بارد؛ "شعرت كم نحن وحدنا، كم نحن في خطر، (ولا حدا حاسس فينا) هنا".
اسم كفر كنا التاريخي هو "قانا الجليل". وتقع غرب بحيرة طبريا (بحر الجليل)، وشمال شرق مدينة البشارة (الناصرة)، ويُعتقَد أنّ فيها مقام النبي يونس الذي عاد، كما "تعلّمنا"، بحول الله من بَطن الحوت (تقول مصادر إنّ القبر لوالده). ويُعتقد أنّ أعجوبة المسيح عليه السلام، بتحويل الماء إلى خمر، حدثت فيها. وقريبة منها قرية "الشجرة" المدمرة التي خرج منها الرسّام ناجي العلي، وابن عمه المُغني "أبو عرب"، الذي أقام أهالي الجليل والمثلث العام الماضي عزاءً له على أراضيها.
ارتدى باسل غطاس؛ العضو العربي في "الكنيست" (المبني فوق أراضي مقام الشيخ بدر في قرية لفتا المقدسية) الكوفية وهو يتحدث داخل الكنيست. وبعد حادثة القتل، انتشرت الكوفيات بين طلبة المدارس تضامناً واحتجاجاً. ويوم الاثنين الماضي، في قرية عربية شرق عكا، دخل طلاب يرتدون الكوفيات، أجبرهم المدير المُتَساوِق مع الحكومة الإسرائيلية، أو الخائف منها، على خلعها، فرفضت فتاة سمراء صغيرة جميلة، فهددها المدير بالذّهاب للشرطة ضدها وضد أهلها. ويوم الثلاثاء، عادت الفتاة بكوفيتها للمدرسة، بإصرارها وأهلها. ويومها لسبب ما قال المدير في كلمة الصباح: "كل واحد حُر شو يِلبِس، وحقو يعَبِّر عن رأيه".
الآن، لم تعد المشاهد من الذاكرة؛ نرى شبابا وصبايا، بعمر شفيق الحوت وإبراهيم أبو لغد يوم طُرِدا، يصنعون الحدث والذاكرة، ويتواصلون مع باقي الفلسطينيين؛ يقفون أمام بنايات حجرية قديمة جميلة باقية، كما في حيفا، وشوارع سخنين ويافا، يرتدون الكوفيات، يتَّحِدون ويتَحدّون.
مع إرث تاريخي وذاكرة أسطورية كالذي تحمله "قانا الجليل"، وذاكرة نقلها سميح القاسم، ومحمود درويش، وناجي العلي، وأبو عرب، وشفيق الحوت، وإبراهيم أبو لغد، وآخرون، ومع كسر حاجز الخوف؛ يظهر جيلٌ جديد، قد يستطيع تَمثُّل شعر توفيق زيّاد: "كأننا عشرون مستحيل...".