انتخابات مصر وأجواء عمان!

يترقب الأردنيون، كما غالبية العرب، مآلات معركة الانتخابات الرئاسية في مصر الأسبوع المقبل، وسط توقعات بأن يكتسح وزير الدفاع السابق عبدالفتاح السيسي صناديق الاقتراع في مواجهة منافسه الوحيد، السياسي اليساري حمدين صباحي، رغم ترجيحات البعض بتدني معدل الإقبال.اضافة اعلان
فما يدور في مصر -مركز ثقل العالم العربي وقاطرته السياسية- ينعكس بالتأكيد على المنطقة وشعوبها المنقسمة حول السياسة والاقتصاد والثقافة والمرأة والمواطنة والديمقراطية ودور الدين في الحياة العامة. هذه التشظيات أخذت تطفو بوضوح على السطح بعد سلسلة الثورات والانتفاضات المعاكسة لها فيما بات يعرف بدول التحول، منذ الإطاحة بزين العابدين بن علي، وحسني مبارك، ومعمر القذافي، وعلي عبدالله صالح.
النتائج الأولية لاقتراع المصريين المغتربين في 124 دولة أظهرت تفوق السيسي. ولذلك أسباب عديدة، أبرزها انحياز الجيش لرغبات طيف واسع من المصريين الذين نزلوا إلى الشوارع صيف 2013 لعزل محمد مرسي المنتمي للإخوان المسلمين.
ولمؤيدي السيسي أسبابهم الموضوعية بعد سنة حافلة أمضاها مرسي في مقعد الحكم، وأسندت له لاحقا اتهامات باحتكار السلطة ومحاولة فرض آراء الجماعة على المجتمع وإقصاء الآخرين، وتخريب علاقات القاهرة مع غالبية العواصم العربية مقابل التقارب مع أنقرة والدوحة وحماس الفلسطينية، وأيضا مع الحكومة التونسية بقيادة حزب النهضة الإسلامي، قبل أن تترجل الحركة عن الحكم.
الذين يقفون على الضفة الأخرى من المشهد -بمن فيهم الإخوان وبعض المعارضة اليسارية التقليدية والقوى العلمانية المتشرذمة- يصفون العملية السياسية بـ"انقلاب الجيش" على الشرعية، مع ما تلاه من تقويض لأسس الحريات العامة والعداله القضائية. يحدث ذلك في زمن ينعت فيه كل من لا يساند السيسي -سواء في مصر أو خارجها- بـ"الإرهابي" أو "المخرب" أو تابع "لأجندات الغرب"، في إطار حملة طوعية محمومة لإسناد وزير الدفاع السابق وشيطنة الرأي الآخر على غالبية شاشات وسائل الإعلام العام والخاص.
في الأردن انقسامات واضحة حيال ما يجري في مصر، وأيضا في سورية؛ ما يرفع مناسيب الخوف والقلق لدى شرائح واسعة بسبب الفوضى والدماء التي سالت عقب الثورات، وتشرّد السوريين. هكذا تقدم الأمن والازدهار الاقتصادي على الحريات السياسية والديمقراطية.
يحق لكل مصري وعربي تقدير الوضع، واتخاذ الموقف الذي يريد، بناء على حسابات الأيديولوجيا والمعتقد أو الخيارات الشخصية. لكن لا يحق لأحد فرض رأيه على الآخر أو إقصاءه أو التهجم عليه أو سجنه لمجرد إبداء الرأي، بعد أن كسرت الشعوب عقدة الخوف، وبرعت  في الإبحار عبر وسائل التواصل الاجتماعي، محطمة احتكار الحكومات للحقيقة عبر السيطرة على وسائل الإعلام وعقول الشعوب وأفئدتها.
فحرية الرأي والنقد والتفكير هي الأساس، ومن دونها لا يمكن المطالبة بشيء. كما أن الشعوب ليست قطعانا من الخراف خلف الراعي.
لكن يبدو أن أمامنا مشوارا طويلا وشاقا قبل أن نرتقي إلى مستوى الحوار المسؤول، وتقبل الرأي الآخر بعقلانية، والاعتماد على الحقائق والمعلومات وليس العواطف أو التشهير أو الإيذاء.
غالبية جيلنا نتاج أنظمة بطريركية ومجتمعات أبوية ومناهج تعليمية عوّدتهم على البصم، وألغت حق النقد والتفكير. ثم دخلت على الخط أحزاب شمولية اتكأت إلى الأيديولوجيا أو الدين، وأغلقت عقل العربي بين سيف السلطان ودكتاتورية الشارع. هذه الثنائية شجّعت على اضطهاد المرأة، وعلى الخضوع للأوامر المنزلة من عل من دون مساءلة.
سوء طالعنا زاد مع انبلاج الثورة المعرفية، وتحول الكون إلى قرية مفتوحة، إنما من دون أن يكون لدى غالبية الشعوب العربية مهارات للتعايش مع تحديات العولمة أو اقتناص فرصها. ورغم انسياب الأخبار والآراء عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فقد ظهر أيضا حجم الأذى من استخدام هذه الوسائل من دون التأكد من المعلومات. فنبأ واحد مغلوط يسري إلى الملايين بلمح البصر من دون أن تميز بين الحقيقة والخيال. هكذا يتحول الكذب والانطباعات إلى حقيقة، فيما يدخل على الخط الموروث الثقافي والاجتماعي والديني وطريقة التربية لتفرز أنماطا سلوكية مقلقة.
باتت الصورة مخجلة في غالبية الدول العرببة؛ إذ تغرق في مستنقع من التخلف المعرفي والعلمي والثقافي. وقد غُيّب التنوير الذي واكب مشهد التحرر من الاستعمار، لتحل مكانه سياسات التجهيل التي اعتمدتها غالبية أنظمة الحكم الشمولي. ولم يعد هناك سبيل أمام نهوض العرب إلا بثورة تعليمية تفتح آفاق المعرفة أمام الشباب الطامح نحو حياة أفضل، وتحثهم على المطالبة بحقوقهم بطريقة حضارية.
لذلك، فإن أي مشروع إصلاح لا يضع التعليم على رأس سلم الأولويات، سيؤول إلى الفشل على طريق التحول لمجتمعات عصرية قائمة على الحاكمية الرشيدة، والمساواة للجميع، والانفتاح على الآخر، وفصل السلطات، والمطالبة بالحقوق من دون اللجوء إلى العنف الجسدي واللفظي، المعنوي أو النفسي. فأي نظام تعليم لا يراعي حرية التعبير والتفكير النقدي، هو الكارثة بعينه.
مناسبة هذا المقال ما نراه من عراك في العديد من المناظرات والمقابلات التي تبث على الفضائيات العربية. ثم جاءت محاولة زميلة تصوير مقابلات مع مصريين أمام سفارة بلادهم في عمان قبل يومين بشأن الإدلاء بأصواتهم في اقتراع المغتربين. فحين لمحوا الصحفية، أطلق عدد منهم صيحات "سيسي رئيسي"، وأدلوا بدلوهم عن خيارهم بالتصويت لمصلحة "المنقذ الأكبر" وخليفة جمال عبدالناصر. وعندما سألت أحدهم وأجاب بصوت عال أنه سيصوت لحمدين صباحي، تهجم آخرون عليها وعليه.
وخلال تسجيل برنامج "المناظرات العربية الجديدة"، قبل أسبوعين في تونس، بعنوان: "الأحزاب السياسية الإسلامية أضاعت فرصتها في الحكم"، اضطر المنظمون لوقف التسجيل بعد أن تحولت القاعة إلى ساحة تظاهر لمؤيدي حزب "النهضة" الإسلامي وأحزاب علمانية ويسارية. وحتى بعد أن غادروا موقع التسجيل، تفلت الطرفان على بعضهما بعضا وتلاكموا خارج القاعة. أما في مناظرة يوم الاثنين الماضي في عمان بعنوان "مصر خيبة أمل لبقية الدول العربية"، فقد حاول بعض الحضور إخراج الحوار عن سياقه، من خلال استهجان تقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية التي تنتقد تعامل الحكومة المصرية مع المعارضة وقرارات الإعدام الجماعية.
بالطبع، تعرض البرنامج لحملة انتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي. وذهب زملاء في مصر إلى التهجم على الأردن بسبب سماحه باستضافة هذا المنبر الحر، من دون أن يدركوا أن أسرة البرنامج، التي أنتمي لها، كانت تفضّل عقد هذه المناقشة في "أم الدنيا" لولا حظر الإخوان وإدراجهم ضمن لوائح التنظيمات الإرهابية، كما حظر أنشطة حركة "6 أبريل". كما انتقد آخرون -منهم أردنيون- ما اعتبروه موقفا مسبقا للمنظمين من خلال تبنيهم هكذا طرح. لكنهم لا يعرفون أن مؤسس المناظرات، الإعلامي البريطاني المستقل ومراسل "بي. بي. سي" سابقا، تيم سباستيان، اكتسب شهرة واسعة منذ كان المحاور الأول في برنامج "هارد توك" (الكلام القاسي)، ما أهله للقب المحاور الأفضل مرتين بحسب الجمعية الملكية للتلفزيون في بريطانيا. وقد لا يعرفون أيضا أن فكرة المناظرات على طريقته تستند إلى نهج عمره قرون في الجامعة الشهيرة التي تخرج منها؛ أكسفورد.
قبل إطلاقه برنامج "المناظرات العربية الجديدة" مطلع العام 2011، أدار سباستيان "مناظرات الدوحة" لمدة ثمانية أعوام. وفي سياق البرنامج -الذي يطرح قضايا مثيرة للجدل- يتقابل محاوران؛ مؤيد ومعارض للطرح، ثم ينضم الجمهور للحوار. والهدف هو تعزيز حق التعبير والإبداع عبر الحوار المسؤول. وما إن ينتهي بازار الأفكار "مع" و"ضد" عنوان المناظرة، حتى يطرح سباستيان أسئلته الخاصة القائمة على بحث معمق، وبأسلوبه المحرج والجريء الذي لا يدع مجالا للتهرب من أسئلته. بعدها، يفتح الباب أمام أسئلة الجمهور قبل التصويت إلكترونيا، تأييدا للطرف الأكثر إقناعا.
للأسف من هاجم البرنامج لم يكلّف نفسه مطالعة أفكار أخرى طرحها سباستيان بما فيها مناظراته في عمان خلال العامين الماضيين، بدءا من "الأردن على حافة الانهيار السياسي"، و"العالم العربي ليس مكانا مناسبا للمرأة"، و"الغرب خذل الشعب السوري"؛ مرورا بتونس: "العنف السياسي وصل درجة غير مسبوقة"، و"الربيع العربي انتهى"؛ وفي مصر حتى منتصف 2013: "بدايات الديمقراطية مخيبة للآمال"، و"الانتخابات الرئاسية في مصر فقدت صدقيتها".
المحزن أننا ننسى ثقافة التناظر وهي تستعيد جذورها لأول مرة في المنطقة منذ قرون. فالإسلام كان المحرك الفكري للعالم عندما كان الناس من مختلف الأفكار والديانات يجتمعون ويتحاورون.
إذن، هذه ليست بدعة غربية. لكن زمن التخلف أغلق عيون وآذان كثيرين قرروا أن الطريق الأسهل تكمن في حل الاختلافات على طريقة الرابح يحصد كل شيء مقابل فناء الخاسر.