انتفاضة فلسطينية جديدة

ملصق دعائي يقول إن الانتفاضة الفلسطينية مستمرة - (أرشيفية)
ملصق دعائي يقول إن الانتفاضة الفلسطينية مستمرة - (أرشيفية)

ويندي بيرلمان - (فورين بوليسي) 10/10/2011

 

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

اضافة اعلان

خطف محمود عباس انتباه العالم بمسعاه المثير للجدل لتحصيل اعتراف الأمم المتحدة بدولة فلسطينية. وبينما ينتظر العالم نتائج تلك المبارزة الدبلوماسية، تبقى إحدى الأوراق القوية الرئيسية هي احتمال قيام احتجاج شعبي سلمي شامل في الأراضي الفلسطينية. ويخشى البعض من أن فشل محاولة عباس سوف يثير اضطرابات واسعة النطاق، بل وحتى انهيار السلطة الفلسطينية. ويأمل آخرون بأن يتحد الفلسطينيون بشكل جماعي وراء استراتيجية أبومازن، وذلك باستخدام احتجاجات غير عنيفة على الأرض من أجل رفد واستكمال الضغط الفلسطيني الرسمي على إسرائيل في الأمم المتحدة.
لكن هذين الطرفين سوف يصابان بخيبة الأمل؛ إذ لا يرجح أن يكون إحباط المحاولة في الأمم المتحدة شرارة كافية لإشعال جذوة الاحتجاجات الموصوفة. وتتوقع قلة من الفلسطينيين أن تفضي المناورة الدبلوماسية إلى إحداث تغييرات ملموسة. ولذلك، فإنهم لن يصبحوا أسرى لخيبة الأمل في حال لم يحدث ذلك. وبالإضافة إلى هذا، فإن الانقسامات السياسية والمؤسسية والإقليمية في الحركة الوطنية الفلسطينية اليوم تحد من قدرتها على خلق هدف واحد واستراتيجية واحدة لتوجيه المقاومة الشعبية. وبينما استكشف احتمال كتابة فصل جديد عن النضال الفلسطيني، فإن الحركات بحاجة إلى الوحدة الوطنية من أجل حشد مشاركة واسعة، والتي يمكن أن تغذي احتجاجات غير عنيفة، كما هي بحاجة إلى انضباط نفس جمعي من أجل تجنب استدراج المحتجين إلى العنف. ولا شك أن التماسك السياسي هو أمر حاسم حتى يكون التحشيد كبيراً في حجمه وقابلة للاستدامة مع مرور الوقت. وذلك التماسك مفقود حالياً على الساحة الفلسطينية، رغم أن المرء لا يعرف أبداً متى يمكن للحيوية العنيدة للمجتمع المدني الفلسطيني أن تعيد تخليقه من جديد.
قد يبدو من الغريب القول إن من غير المحتمل أن ينخرط الفلسطينيون في احتجاج جماهيري جماعي، نظراً لتاريخهم العميق في التعبئة الشعبية وتعدد الأمثلة على النشاط الشعبي الإبداعي على الأرض اليوم. ويشتمل هذا النشاط على احتجاجات قرى الضفة الغربية المستمرة ضد الجدار العازل الإسرائيلي، والتظاهرات ضد هدم المنازل في القدس الشرقية، والمسيرات التي أقيمت في شهر آذار (مارس) الماضي مطالبة بالمصالحة بين حركتي فتح وحماس، من بين أعمال عديدة أخرى، والتي تجتذب أو لا تجتذب الانتباه في الغرب. لكن هناك العديد من الأسباب التي تجعل مثل هذه الحالات ذات الصبغة المحلية أو المكونة من فصل واحد لا تضيف ما يصل الى تعبئة وطنية أقرب إلى الثورات التي نراها في أماكن أخرى من العالم العربي.
أولاً، قامت الانتفاضات الأخرى في المنطقة بحفز الرغبة في إطلاق العنان لمشاعر الإحباط التي كانت مكبوتة منذ عقود. أما الفلسطينيون، من الناحية الأخرى، فقد شهدوا انتفاضة في كل جيل. وفي هذا الصدد، لا يمكن وصف حصيلة الخسائر الكلية المدمرة التي نجمت عن الانتفاضة الثانية. ومع أكثر من 4000 حالة وفاة، وأكثر من 5000 سجين في السجون الإسرائيلية -ناهيكم عن الخسائر الاقتصادية الهائلة، والتجزيء السياسي والمناطقي المذهل، وخلق معاناة اجتماعية لا توصف- بات الفلسطينيون يشعرون بالقلق من تبعات القيام بانتفاضة أخرى. وعلاوة على ذلك، فإنهم يشككون في فرص للنجاح. وكان استطلاع حديث للرأي قد طرح السؤال: "إذا كان تمرد شعبي على غرار الثورة السلمية في مصر أو تونس ليندلع ضد الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، هل سيكون قادراً على إنهاء الاحتلال؟". ومن المشاركين الفلسطينيين، قالت نسبة 64 %: لا، وكذلك قالت نسبة 72 % من المستجيبين الإسرائيليين للسؤال. وهكذا، وعلى النقيض من الجماهير العربية الأخرى، لا ينطوي الفلسطينيون على التشويق والإثارة اللذين ينجمان عن إطلاق صوت قُمع طويلاً. بل إنهم أصبحوا بدلاً من ذلك محبطين وخائبي الأمل من كثرة الصراخ كل هذا الوقت الطويل.
ثانياً، تحمل الأبعاد المختلفة للفضاء دلالات ومضامين مختلفة للتكتيكات النضالية. ففي مصر، واليمن، والبحرين، احتلت الحركات المؤيدة للديمقراطية ساحة مركزية. وفي تونس وليبيا، بدأت الاحتجاجات على أطراف البلاد وكسبت زخماً بينما كانت تتحرك في اتجاه العاصمة. وفي سورية، ما تزال حركة الاحتجاج تسعى إلى أن تسلك طريقاً مشابهاً. لكن الجغرافيا السياسية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني تظل متمايزة. فإذا أقام الفلسطينيون تظاهرات في المدن الرئيسية في الضفة الغربية وغزة، فإن الإسرائيليين لن يرونها ولن يأبهوا بها. والبديل عن ذلك هو احتمال أن ينظم الفلسطينيون مسيرات سلمية إلى نقاط التفتيش الإسرائيلية أو المستوطنات في الضفة الغربية، أو باتجاه نقاط العبور الإسرائيلية إلى قطاع غزة. لكن هذه الفضاءات مُعسكرة ومسلحة، وسوف تعامل إسرائيل تلك التظاهرات بوصفها اختراقات للحدود السيادية. وحتى لو كانت الحشود المقتربة من الفلسطينيين معزولة تماماً، فإن المرجح هو أن ترد إسرائيل بالقوة. وكما تشير حالات سابقة من التاريخ الفلسطيني ومن جميع أنحاء العالم، فإنها لا توجد وسيلة أكثر رسوخاً من القمع لتحويل الاحتجاج السلمي إلى احتجاج عنيف.
ثالثاً، ثمة علاقة مختلفة بين المجتمع والقيادة قيد العمل. فقد شهد الربيع العربي تمرد المواطنين ضد زعماء غير منتخبين وغير فعالين. ولدى الفلسطينيين الكثير جداً من الانتقادات والاعتراضات على الحكومات التي تقودها فتح وحماس في الضفة الغربية وقطاع غزة على التوالي. وعلى العكس من الأحزاب الحاكمة الجوفاء في تونس ومصر، فإن للفصائل الفلسطينية جذورا عميقة في المجتمع، ولديها أيضا تاريخها الطويل الخاص في قيادة المقاومة الشعبية التي يمكن استحضارها عندما تقتضي الضرورات السياسية. وربما ترحب فتح وحماس بالتعبئة الشعبية كوسيلة للضغط على إسرائيل، لكنهما لن تذهبا في ذلك شوطاً بعيداً من أجل ضمان أن لا تفلت الأمور من سيطرتهما، أو أن تتطور إلى تحد ضدهما. وفي حقيقة الأمر، ربما تعمدان إلى الاستيلاء على الاحتجاج الشعبي كمصدر للاحتواء والاستخدام من أجل تعزيز طموحاتهما في السياسة الفلسطينية. وبهذا المعنى، سيقل احتمال أن يشبه أي حشد فلسطيني كبير تلك الوحدة التي عُرضت في ميدان التحرير، ويزيد احتمال عرض نوع الانقسامات التي تسببت بتعثر ثورة الأرز في لبنان في العام 2005. وفي هذه الأخيرة، أصبحت الدعوات إلى إصلاح النظام الطائفي في وضع حرج، عندما أعادت الأحزاب الطائفية نفسها أتباعها إلى قبو الولاءات الفئوية. وقد حالت بذلك دون أن تشكل احتجاجات الشوارع خطراً وتهديداً للوضع السياسي المحلي القائم.
وحتى تصبح الأمور أكثر تعقيداً، فإن للسلطة الفلسطينية مصلحة واضحة في تقييد المقاومة الشعبية وحشرها داخل حدود أجندتها السياسية الخاصة. وفي الوقت الذي تود فيه قيام احتجاجات شعبية تشكل رافعة لها في إجراء مفاوضات ذات معنى مع إسرائيل، فإنها لا ترغب في أي تصعيد يمكن أن يجهض مثل هذه المفاوضات ويعرضها للخطر. حتى لو قامت السلطة الفلسطينية بتشجيع التظاهرات، فإنها ستحاول منعها من اتخاذ أي شكل ربما يستفز إسرائيل ويدفعها إلى الرد باستخدام القوة العسكرية. ليس من الواضح ما سيبدو عليه تجدد واسع النطاق لقوة الشعب الفلسطيني إذا ما أصبح متأثراً، مُداراً، أو مستغلاً من قبل السلطة الفلسطينية أو أي من الأحزاب الأخرى المتنافسة على قيادة النضال الفلسطيني. لكنه سيكون، بالتأكيد، مختلفا عن ظاهرة المقاومة الشعبية التي تكشفت في الأماكن الأخرى. وربما يكون للمسيرات المحظورة رسمياً في رام الله دعم لاستراتيجية للسلطة الفلسطينية والشكل الخارجي للانتفاضات الشعبية العربية، لكن القليلين سوف يخلطون بينهما.
باختصار، لا ينبغي لنا أن نتوقع اندلاعاً للربيع العربي في فلسطين في أي وقت قريب. وبشكل أكثر جوهرية، لن يكون من العدل أن نقوم بذلك. ثمة الكثيرون من الذين يدعمون مسعى الفلسطينيين في الأمم المتحدة يفعلون ذلك على أمل (إعادة) تدويل النزاع. ويعني هذا بشكل أساسي نقل الصراع إلى الساحة الدولية، باعتبارها النقيض لساحة هيمنة الولايات المتحدة والمفاوضات الثنائية. ومع ذلك، فإن "التدويل" في هذه الحالة سوف يحمل معنى آخر، كذلك -وهو وضع التوقعات على زعماء العالم، بدلاً من وضعها على القاعدة الشعبية الفلسطينية.
لقد ظل المجتمع الفلسطيني منخرطاً دائماً في أنواع مختلفة من الاحتجاج طوال ما يقرب من 100 سنة. وقد استنفد طاقته، محقاً. وعلى مدى مسار القرن العشرين كله، وكلما وصلت قضية فلسطين إلى نقطة ركود، كان المدنيون الفلسطينيون؛ الرجال والنساء والأطفال، هم الذين يحركون الوضع الراكد نمطياً، من خلال تعبئة الموارد الضئيلة المتاحة لهم. وعلينا أن نكف عن التساؤل عما إذا كانوا سيفعلون ذلك مرة أخرى، ومتى. وبدلاً من ذلك، حان الوقت لأن يستخدم المجتمع الدولي الموارد الموجودة تحت تصرفه للمساعدة على إحلال سلام عادل ودائم، مرة واحدة وللأبد.

*أستاذة مساعدة للعلوم السياسية، وأستاذة كرسي في دراسات الشرق الأوسط في جامعة نورث وسترن. وسوف يصدر كتابها الثاني على النضال الفلسطيني: "العنف، اللاعنف، والحركة الوطنية الفلسطينية"، قريباً عن مطبعة جامعة كيمبردج.
*نشرت هذه القراءة تحت عنوان: 
  A new Palestinian Intifada ?

[email protected]