انحدار معايير الإبداع والتلقي

قبل سنوات عديدة، وقبل شيوع ظاهرة كتّاب "السوشال ميديا النجوم"، كتب رئيس مؤسسة الشعر الأميركية والمدرس في كلية بينينغتون جون بار، مقالا مطولا، نظّر فيه إلى أن الشعر الجديد أصبح ضرورة ملحة الآن، "لأن الطريقة التي اعتاد أن يكتب بها الشعراء لم تعد صالحة لهذا العصر"، ولأن "الحقيقة تنمو أكثر من الشكل الفني، ولم يعد ممكنا للشكل الفني أن يساوي الحقيقة من حوله".اضافة اعلان
جون بار، كان محقا كثيرا في كلامه، لكنه، بالتأكيد، لم يكن يعني تحوّل ساحة الإبداع إلى مهرجين وحُواة. على "يوتيوب"، وتحت عنوان "القصيدة التي أبكت الملايين"، سنجد "تهبيلا" كبيرا من شخص يتابعه مئات الآلاف، بذريعة أنه "شاعر" و"نجم"، ولكن حين ندقق في العبارات والجمل والسياقات، سوف تصدمنا السطحية الكبيرة التي يصوغ بها هذا الشخص أفكاره ويعبر عنها.
هذا "الشاعر"، وغيره كثيرون، أصبحوا جماهيريين في الحقبة الجديدة التي ازدهرت فيها العديد من الظواهر، وأفرزت نجوما في مواقع التواصل الاجتماعي. وهي حقبة مليئة بالخراب، وتذكرنا كثيرا بعصر الانحطاط العربي في الإنتاج الفكري والإبداعي، والذي تم تدشينه مع سقوط بغداد في العام 1258.
قد نفهم أسباب انحدار الأدب والإبداع في تلك الفترة التي حكمها المماليك والعثمانيون، فلم يعيروا الشعر أي أهمية، ما أسهم في تراجعه من الحياة العامة، وجعل الأدب في مرتبة متأخرة من المجتمع، وهو الأمر الذي أدى إلى حالة من التردي في الإبداع بشكل عام.
كان لزاما على العرب الانتظار زهاء ستة قرون من أجل ظهور تيارات جديدة، ومجددين في الأدب، أخذوا على عاتقهم إعادة الشعر إلى طريقه، وجر وعي العامة إليه، من خلال جعله يناقش الهموم المجتمعية، والاهتمامات العامة.
اليوم، نعيش الانحطاط نفسه الذي يعلي من قيمة "الظواهر" على حساب المضمون، والصوت المرتفع على حساب الجماليات، والشعبوية على حساب الفكر، فمواقع التواصل الاجتماعي استطاعت أن تنخر عميقا في أساس عمليتي الإبداع والتلقي اللتين كانتا نخبويتين فيما سبق، وعملت على تدميرهما لمصلحة "ظواهر" ستختفي فجأة كما جاءت فجأة.
الإبداع العربي لا ينقصه مجددون أو قمم إبداعية، فهناك نماذج عربية تصل إلى العالمية بما تنتجه من مدونات شعرية وسردية، ولكن المشكلة في الفوضى الكبيرة التي تخلفها المشاعية في الإنتاج الإبداعي، واشتراطات التلقي الحديثة، والتي جعلت من العوام "مبدعين" و"نقادا"، وفرضت "ذوقها" الهابط على كل ما يحيط بنا.
يؤكد نقاد غربيون ينظّرون اليوم لإمكانية عودة الشعر إلى الواجهة من جديد، أن على الشعر أن يجمع معيارا للمسرة، أو الترفيه، إلى جانب العمق، وهو كلام قد يشتمل على حقيقة كبيرة، فالإنسان خليط من المتناقضات، ومهمة الشعر بشكل خاص تتأسس على إدراك ماذا يعني أن تكون إنسانا.
ولكن ماذا عن نجوم "السوشال ميديا؟"، بالتأكيد أننا لا نريد إسكات "كتابة الجمهور"، فكل شخص له الحق في التعبير عن نفسه، ولكن تراث الشعر يرغمنا على البحث عن أفضل الموجود، والاحتفاء به، لا أن نحتفي بتعابير سطحية لا تشتمل على أي عمق!
لكن علينا أن نعي حقيقة مؤكدة: نحن نعيش في هذا الانحطاط اليوم ليس لأنه لا يوجد مبدعون، بل لأن حجم الرداءة كبير جدا، وعلى كامل التراب العربي.