انخفاض أسعار النفط: أسبابه وتداعياته

منشأة نفط انخفض سعر منتجها في الاسواق العالمية الى مستويات قياسية - (أرشيفية)
منشأة نفط انخفض سعر منتجها في الاسواق العالمية الى مستويات قياسية - (أرشيفية)

عمان- الغد- يعد النفط الخام أكثر السلع المتداولة في التجارة الدولية من ناحية الكمية والقيمة فيما أوجد اقتصادا عالميّا قائما بذاته وهو الاقتصاد الهيدروكربوني.اضافة اعلان
لذلك؛ فإن التغير في أسعار النفط الخام صعودا أو هبوطا يثير اهتمامات وقلق كل سكان العالم سواء كانوا منتجين أو مستهلكين.
منذ أكثر من عقد؛ اعتاد العالم على سعر لهذا النفط يتجاوز الـ100 دولار للبرميل فيما عدا العام 2009 نتيجة الأزمة المالية العالمية وما أدت إليه من ركود في هذا العام وبعد أن جاوز سعر برميل النفط الخام 115 دولارا إذا به منذ حزيران(يونيو) الماضي وهو ينحدر على خلاف التوقعات التي كانت تذهب إلى ارتفاع الأسعار على خلفية الحروب الدائرة في منطقة الشرق الأوسط ووباء الإيبولا المنتشر في أفريقيا.
وفي الأسبوع الأخير من تشرين الثاني (نوفمبر)، انخفض سعر خام برنت إلى 73 دولارا للبرميل فيما تراجع أخيرا إلى 68 دولارا وهي الأسعار الأقل منذ 5 سنوات، وعزز من هذا الانخفاض قرار الأوبك (التي يشكل إنتاجها 40 % من الإنتاج العالمي) في اجتماعها الأخير الشهر الماضي والخاص بالمحافظة على سقف الإنتاج بدون تغيير وهو 30 مليون برميل، وهو السقف المتفق عليه منذ كانون الأول (ديسمبر) 2011 رغم انخفاض سعر البرميل بنحو 30 %.
فما هي الأسباب التي أدت إلى هذا الانخفاض؟ ولماذا اختارت الأوبك، السعودية تحديدا، ترك الأسعار كي تتحدد بتفاعل قوى السوق دون تدخل بتقليص الكميات المنتجة؟ وما هي تداعيات انخفاض أسعار النفط على المستهلكين والمنتجين؟
يعزى الانخفاض الحاصل في الآونة الأخيرة في أسعار النفط الخام إلى الأسباب الآتية:
- الانكماش الاقتصادي في كل من أوروبا والصين واليابان، وهي أسواق استهلاكية ضخمة للنفط الخام، وفي هذا فإن تقديرات صندوق النقد الدولي لمعدل النمو الاقتصادي العالمي المتوقع للعام 2015 تبلغ فقط 3.6 % في مقابل 3.2 % للعام 2014، ما يعني أن زيادة الطلب على النفط ستكون ضئيلة وفي حدود 1.1 مليون برميل يوميّا فقط، ما أحدث مضاربة كبيرة على الانخفاض، ومنافسة شديدة بين كبار البائعين، حتى إن شركة أرامكو السعودية منحت تخفيضا قدره دولار عن كل برميل للمشترين في آسيا، و40 سنتا عن كل برميل للولايات المتحدة.
- خلافا لتوقعات تأثر الإنتاج النفطي بالحروب الدائرة في الشرق الأوسط، فقد ارتفع إنتاج النفط الليبي إلى أكثر من 800 ألف برميل يوميّا، بينما كان قد انحدر إلى 240 ألف برميل يوميّا، كما ارتفع إنتاج النفط العراقي إلى 3.5 مليون برميل يوميّا.
- ارتفاع حجم الإنتاج العالمي خصوصا من خارج الأوبك، وعلى وجه التحديد من كندا والولايات المتحدة والبرازيل، أي من إنتاج نفط الرمال الزيتية والنفط الصخري ونفط المياه العميقة، وفي مقابل زيادة متوقعة في الطلب 1.1 مليون برميل يوميّا في 2015، تزيد الدول غير الأعضاء في الأوبك إنتاجها بـ1.4 مليون برميل يوميّا، ما يرفع الإنتاج العالمي إلى 92.3 مليون برميل يوميّا.
- تحقيق الإنتاج الأميركي من النفط الخام أكبر رقم قياسي له منذ 1985، فقد بلغ هذا الإنتاج بنهاية تشرين الأول (أكتوبر) الماضي 8.97 مليون برميل يوميّا إضافة إلى ما يعادل 3 ملايين برميل يوميّا من سوائل الغاز الطبيعي، بسبب تزايد إنتاج النفط والغاز الصخري والذي بلغ 5 ملايين برميل، وإلى هذا ارتفعت الصادرات الأميركية من النفط الخام إلى 400 ألف برميل يوميّا، والولايات المتحدة أكبر مستورد للنفط الخام، ومنذ العام 2007 ووارداتها من النفط الخام والتي تبلغ 8.7 مليون برميل يوميّا آخذة في التناقص، وفي الآونة الأخيرة زاحمت دول الخليج في أسواقها في آسيا، حتى إن شركة "كونكو فيليبس" قامت بشحنات تصديرية من نفط آلاسكا إلى كوريا الجنوبية السوق التقليدية لكل من السعودية والكويت.
وبالنسبة لموقف السعودية أكبر منتجي الأوبك فقد اختارت اتجاه الإبقاء على سقف الإنتاج الحالي بدون تغيير، إدراكا منها أن انخفاض الأسعار هو من تغيرات الأجل القصير، وأن لديها من الاحتياطيات المالية ما يجعلها قادرة على تحمل هذه التغييرات، وأنه إذا كانت قد لجأت إلى خيار خفض الإنتاج فهي التي كانت ستدفع الفاتورة وحدها بدون أن تشاركها فيها كل من إيران والعراق، وكلاهما لن يقبل على تخفيض الإنتاج بسبب حاجته للسيولة وضعف احتياطياته المالية، وأن السوق على المديين المتوسط والبعيد لديه من عوامل القوة في الطلب ما هو أعلى بكثير من قدرة العرض على ملاحقاتها، وأن منتجي النفط الصخري لا يستطيعون تحمل هبوط السعر دون الـ70 دولارا للبرميل؛ حيث تصل تكلفة إنتاج البرميل من النفط الصخري وفق التقديرات المتحفظة إلى ما بين 50 و70 دولارا للبرميل، ومعظم المستثمرين في إنتاج هذا النفط هم من الشركات الصغيرة التي استثمرت أموالاً ضخمة في هذا الإنتاج، وهي تريد استرداد إنفاقها في أقل فترة ممكنة.
والأسعار النفطية الحالية لا تعكس تغيرات جوهرية في عوامل السوق بقدر ما تعكس تأثيرات ضخمة لعمليات المضاربة، فضلاً عن أن الوضع الحالي لأسعار النفط يسهم في سرعة عودة الانتعاش للاقتصاد العالمي، ومن ثم قوة الطلب على النفط في فترة قصيرة.
والأسعار المنخفضة للنفط تحمل معنى سياسي واضح؛ إذ تعني مزيدا من الضغط على الاقتصادين الروسي والإيراني، فبعد أن خسر الروبل نحو ثلث قيمته على مدى عام بسبب العقوبات الاقتصادية الغربية، وتراجع سعره إزاء الدولار إلى مستوى قياسي (50 روبل لكل دولار بينما كان قبل شهر 41 روبل للدولار) فإن نصف عائدات الصادرات الروسية يأتي من تصدير النفط الخام والغاز الطبيعي.
واعتمدت خطة إنفاق الحكومة الروسية للعام 2014 على أساس أن سعر برميل النفط الخام يبلغ 93 دولارا، ولكن في ضوء الانخفاض الحالي فإن ميزانية 2015 تخفض السعر إلى 73 دولارا للبرميل، أما إيران فإنها تخسر نحو 30 % من إيراداتها نتيجة هذا الانخفاض، بما يشكل ضغطا إضافيّا على هذين الاقتصادين لحملهما على التجاوب مع شروط المصالحة الغربية.
بيد أن انخفاض أسعار النفط الخام يعني بالمقابل أن تكلفة دعم الوقود ستقل في البلدان التي تلجأ إلى هذه السياسة ومنها مصر ودول مجلس التعاون الخليجي، ففي مصر قدرت وزارة المالية أن تكلفة دعم الوقود خلال السنة المالية الحالية ستنخفض إلى 75 مليار جنيه مصري (الدولار = 7.15 جنيه مصري) بدلاً من 100 مليار جنيه مصري.
كما أن مبلغ دعم مبيعات منتجات النفط والغاز في السوق المحلي البحريني والمقدر له نحو 961 مليون دينار في ميزانية 2014 سينخفض بما لا يقل عن 15 %، وفيما عدا الكويت وقطر فإن الأسعار الحالية للنفط الخام تقل كثيرا عن سعر التعادل للميزانيات العامة؛ إذ قدر سعر التعادل للميزانية الكويتية بـ54.2 دولار للبرميل، ولميزانية قطر 54.8 دولار للبرميل، وهو ما يعني أن ميزانية كل من هذين البلدين لن تحقق عجزا، في مقابل عجز محتمل في الميزانيات العامة لباقي دول مجلس التعاون الخليجي، قد يقلل من احتماليته تمتع هذه البلدان بسعر مرتفع للنفط في النصف الأول من العام.
وتعد مملكة البحرين أكثر البلدان الخليجية تعرضا لهذا الاحتمال، في ضوء ارتفاع سعر التعادل البالغ 125.4 دولار للبرميل حتى فوق الأسعار التي كانت سائدة في النصف الأول من العام، ناهيك عن انخفاض كميات التصدير.
ومرة أخرى؛ يعيد سيناريو الأسعار المنخفضة تأكيد ضرورة السير بخطى أسرع في تنفيذ استراتيجية تنويع مصادر الدخل حفاظا على استدامة معدلات النمو الاقتصادي، وخروج الاقتصادات الخليجية من حالة الانكشاف الكبيرة كتغيرات السوق النفطي، وهذه الاستراتيجية التي تبنتها كل البلدان الخليجية منذ استقلالها، ومضى كل منها منفردا ومتعاونا مع أشقائه في تنفيذها، ما تزال تتطلب الكثير خاصة في مجالات الصناعات التحويلية والخدمات والصيد البحري؛ حيث تملك المنظومة الخليجية فرصا واعدة.
وتزيد هذه الفرص عما لدى سنغافورة مثلاً، وهي الجزيرة الصخرية الصغيرة التي تفتقر إلى الموارد الطبيعية حتى مياه الشرب، وأصبحت الآن في مقدمة دول العالم في العديد من المؤشرات التنموية، وفي عصور سابقة فيما قبل النفط امتدت تجارة عُمان إلى شرق أفريقيا وجنوب وجنوب شرقي آسيا، واستوطن تجار عمان واليمن هذه المناطق، بل كانوا عاملا قويّا في تغيير ثقافتها.
وأمكن للبحرين ذات الموارد النفطية الصغيرة أن تستثمر  موقعها الجغرافي ومواردها البشرية لتقديم الخدمات المالية، حتى أصبح قطاع هذه الخدمات هو الثاني في الترتيب بعد القطاع النفطي، كما أمكن لإمارة دبي أن تصنع نموذجا للتنمية بدون نفط، تميز في مجالات خدمات الأعمال والتجارة والاستثمارات العقارية.

*مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية