انسحاب أميركا من سورية يعطي "داعش" فرصة لإعادة تشكيل صفوفه

Untitled-1
Untitled-1
دانا سترول* - (معهد واشنطن ليساسة الشرق الأدنى) 8/10/2019 من أجل شرح أحدث قرارات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب القوات الأميركية من سورية، أصدر البيت الأبيض بياناً شدّد فيه على أنّ الولايات المتحدة هزمت "الخلافة الإقليمية" لتنظيم "داعش". لكنّ هذا التصريح يخفي الحقيقة. ففي حين تم إخراج "داعش" من آخر شبر من الأراضي التي كان يسيطر عليها في آذار (مارس)، هنك الكثير من المعلومات التي تشير إلى أن ذلك التنظيم لم يُهزم على الإطلاق. ولنأخذ في الاعتبار ما يلي: في آب (أغسطس)، لاحظ المفتش العام الخاص بالمهمة العسكرية الأميركية لدحر تنظيم "داعش" أن التنظيم "نفّذ عمليات اغتيال وهجمات انتحارية وعمليات خطف وحرق محاصيل"، وأنشأ "خلايا منبعثة من جديد في سورية". وفي الشهر الماضي، قال السفير جيم جيفري -المسؤول الأميركي المكلف بقيادة المعركة الدبلوماسية لدحر تنظيم "داعش" أن التنظيم "ما يزال موجوداً ويسهم في انعدام الأمن ويتسبب بمشاكل في سورية بطرق كثيرة مختلفة". ولعل الأكثر إثارة للقلق هو التحذير الذي حمله أحدث تقرير صادر عن "مجموعة دراسة سورية"، وهي فرقة عمل مشتركة من قبل الحزبين الجمهوري والديمقراطي مكلفة من الكونغرس بتقديم توصيات حول سياسة الولايات المتحدة في سورية (وانطلاقاً من مبدأ الإفصاح الكامل، أنا رئيسة مشاركة في هذا الفريق). وقد حذر التقرير من المخاطر التي تهدد أمن الولايات المتحدة جراء سحب القوات الأميركية السابق لأوانه، مشيراً إلى أن تنظيم "داعش" ما يزال يملك الوسائل والرغبة في "تنفيذ هجمات ضد الولايات المتحدة" وسوف يستغل "أي ثغرة" لتنفيذها وإعادة تعبئة صفوفه. ونظراً إلى الأدلة الكثيرة على أن تنظيم "داعش" ما يزال يشكّل تهديداً مميتاً وعاجلاً، فمن الواضح أن المهمة العسكرية في سورية لم تُستكمل بعد. وفي الواقع، إذا أصرّ ترامب على سحب القوات الأميركية الآن قبل أن تكون الظروف على الأرض مستقرة بما فيه الكفاية، فسوف يفسح المجال أمام التنظيم ليعيد ترتيب صفوفه ويهدّد من جديد أميركا وحلفائها في جميع أنحاء العالم. كان هذا السيناريو بالذات هو الذي وَضَع وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين في موضع السيطرة على الأضرار في المرة الأخيرة التي أعلن فيها الرئيس الأميركي أنه تمّ القضاء على هذا التنظيم الإرهابي في تغريدة نشرها على "تويتر" في كانون الأول (ديسمبر) من العام 2018. وأدّى ذلك إلى تعجيل استقالة وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس بسبب وجهات نظره المختلفة حول أفضل طريقة لحماية المصالح الأميركية. منذ ذلك الحين، لم تستعِد الولايات المتحدة أبداً مكانتها بالكامل، لكن المسؤولين العسكريين والدبلوماسيين الأميركيين كانوا يعملون بلا كلل لاستعادة الثقة الكافية في التزام الولايات المتحدة بمهمة الحفاظ على التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" بقيادة الولايات المتحدة ومواصلة القتال على الأرض. كان العنصر المهم في هذا التحالف هو شريك الولايات المتحدة الذي يحارب تنظيم "داعش" داخل سورية -أي قوات سورية الديمقراطية بقيادة الأكراد. وتضمّ هذه القوات عشرات الآلاف من المقاتلين الأكراد والعرب السوريين الذين دربتهم وسلحتهم الولايات المتحدة للقضاء على "داعش". وخلال السنوات القليلة الماضية، قدّم الجيش الأميركي الدعم الجوي وعدداً محدوداً من القوات الأميركية من أجل محاربة الجماعة الإرهابية داخل سورية. وفي ظل تولي قوات سورية الديمقراطية القيادة على الأرض واضطلاع الولايات المتحدة بدور مساند، تمكنت هذه القوات من إخراج التنظيم الإرهابي من 20 ألف ميل مربع من الأراضي في سورية -إلّا أن ذلك جاء على حساب آلاف الأرواح من عناصرها. يقوم ترامب الآن بمكافأة قوات سورية الديمقراطية على هذه التضحيات بسحب الدعم العسكري الأميركي الذي يبقي هذه القوات وعائلات أفرادها في مأمن من تهديدين وجوديين متساويين هما: ضربة عسكرية من تركيا، وهي دولة مجاورة أكثر قوة ونفاذاً والتي تعتبر الأكراد أعداءً لها؛ وهجوم من نظام الأسد وداعميه، روسيا وإيران، الذين يسيطرون على القسم المتبقي من سورية ويهدفون إلى استعادة ثلث مساحة البلاد التي تسيطر عليها "قوات سورية الديمقراطية". يجب أن يكون ترامب على دراية بما يبدو عليه الاستسلام للأسد وروسيا وإيران استناداً إلى عملياتهم الموثقة: هجمات بمواد كيميائية وقصف بالبراميل المتفجرة، وعمليات إخفاء قسرية وتعذيب، واستيلاء على الممتلكات، وتجويع. صحيح أن الجيش الأميركي سحب بعض قواته خلال الشتاء الماضي، لكنّه أبقى ما يكفي منها داخل سورية من أجل دعم قوات سورية الديمقراطية في قتالها مع "داعش" وحماية المجتمعات المحلية وحراسة ما يُقدّر بنحو 11 ألف محتجز من مقاتلي "داعش" و70 ألفا من أفراد أسر أعضاء التنظيم المنتشرين في حوالي 30 معسكرا عبر شمال شرق سورية. الآن يرغب ترامب في تسليم المهمة العسكرية إلى تركيا. لكنّ أولوية أنقرة لا تتمثل في القضاء على تنظيم "داعش"، كما أنها لا تتمتع بالقدرة على القيام بذلك. وبالنسبة للحكومة التركية، يتمثّل التهديد الرئيسي في سورية بالمقاتلين الأكراد في صفوف قوات سورية الديمقراطية، التي تعتبر أنقرة أنّها الجماعة الإرهابية الكردية نفسها التي مركزها في تركيا -أي حزب العمال الكردستاني. من أجل منع أي توغل عسكري تركي في عمق الأراضي السورية لمحاربة الأكراد، أجرى مسؤولون أميركيون خلال الأشهر القليلة الماضية مفاوضات بشأن إقامة "منطقة آمنة" على طول الحدود التركية-السورية في شمال شرق سورية. وقد أتت تلك المفاوضات بثمارها؛ حيث قام الجيشان الأميركي والتركي بدوريات مشتركة لضمان ابتعاد المقاتلين الأكراد السوريين وأسلحتهم الثقيلة عن الحدود التركية، في حين ركّزت قوات سورية الديمقراطية -بعد أن طمأنت الولايات المتحدة أعضاءها حول سلامة أسرهم- على محاربة تنظيم "داعش". وقد أظهر ذلك القيادة الأميركية في أفضل حالاتها: دبلوماسية مدعومة بأدوات عسكرية لمنع حدوث أسوأ السيناريوهات المتمثلة في منح "داعش" فرصة لإعادة ترتيب صفوفه واستعادة الأراضي التي كان يسيطر عليها سابقاً. لكنّ إعلان الرئيس الأميركي جعل السيناريو الأسوأ أكثر احتمالاً: وفاء الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتعهده بالتحرك إلى داخل شمال سورية، وتحوّل قوات سورية الديمقراطية إلى التركيز على حماية أسر أعضائها من الهجوم التركي. وبدلاً من المخاطرة باندلاع أعمال عنف بين دولتين حليفتين في حلف "الناتو"، قام الجيش الأميركي بإخلاء المنطقة بينما بدأت تركيا عملياتها العسكرية. وبتعبير آخر، أنهت الولايات المتحدة المهمة العسكرية لهزيمة "داعش" في سورية بالشكل الذي نعرفها فيه. ويعني ذلك في جزء منه أن تغيير قوات سورية الديمقراطية أولوياتها بعيداً عن تنظيم التركيز على "داعش" سيقلص حجم عناصرها المخصصين لحراسة عشرات الآلاف من مقاتلي التنظيم المحتجزين وعائلاتهم، مما قد يدفع "داعش" إلى التخطيط لعمليات هروب من السجن وإعادة تعبئة صفوفه. وذكر البيان الصادر عن البيت الأبيض عقب قرار الانسحاب أنّ حراسة هؤلاء المعتقلين أصبحت من مسؤولية تركيا، ولكن لا يوجد ما يشير إلى أن تركيا قبلت بهذا الدور. بعد أن احتفظ تنظيم "داعش" بهيكليته القيادية ونفاذه إلى الموارد وجاذبيته العالمية، سيتمكن من إعادة بناء قواته والبدء بإطلاق هجمات لا تستهدف المجتمعات السورية فحسب، بل ستستهدف أهدافاً أخرى عبر الحدود في العراق أيضاً -حيث تنتشر أعداد أكبر بكثير من القوات الأميركية- وكذلك التخطيط لشن هجمات في أوروبا والولايات المتحدة. سوف تشهد الولايات المتحدة من جديد أنّ أمنها قد أصبح مهدداً بشكل مباشر. ولكن هذه المرة، وعندما تتطلع إلى أصدقائها من أجل إعادة تشكيل تحالف عالمي لمكافحة الإرهاب، سوف تشكك الحكومات بمصداقيتها المتضررة أساساً. وبالنظر إلى سجلها الحافل بمفاجأة أصدقائها وبالتخلي عن شركائها، ستواجه الولايات المتحدة صعوبات في ضمان تأمين الالتزامات والمساهمات. وبالتالي، سينطبق عندئذٍ مبدأ أميركا وحدها وليس أميركا أولاً. *زميلة رفيعة في "برنامج غيدولد للسياسة العربية" في معهد واشنطن. وكانت سابقاً أحد كبار الموظفين في "لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي" لشؤون الشرق الأوسط.اضافة اعلان