انفجار بيروت هو تشيرنوبيل لبنان

زوجان لبنانيان يتفقدان الأضرار التي لحقت بمنزلهما في منطقة تطل على ميناء بيروت بعد الانفجار – (المصدر)
زوجان لبنانيان يتفقدان الأضرار التي لحقت بمنزلهما في منطقة تطل على ميناء بيروت بعد الانفجار – (المصدر)
ترجمة: علاء الدين أبو زينة أوز قاطرجي* - (فورين بوليسي) 5/8/2020 انفجر محافظ مدينة بيروت، مروان عبود، بالبكاء بينما يتحدث إلى الصحفيين مساء الثلاثاء أثناء البحث بين الأنقاض المتناثرة في ميناء بيروت المدمر عن بقايا رجال الإطفاء المفقودين. وقال عبود: "إنها كارثة وطنية"، مقارِناً الدمار الذي خلفه الانفجاران بهيروشيما وناغازاكي بعد القصف النووي، قبل أن ينهار في نوبة من البكاء. لكن هناك تشبيهاً نووياً أكثر ملاءمة لوصف الانفجارات التي هزت بيروت: انهيار مفاعل تشرنوبيل. لا يبدو أن انفجار المستودع في ميناء بيروت يوم الثلاثاء كان نتاج صراع أو فعل عنف متعمد. لقد جاء، كما يبدو، بطريقة أشبه بالكارثة السوفياتية، نتيجة لعدم الكفاءة الهائل، والفساد المستشري والإهمال -وسوف يمتد تأثيره حتماً إلى ما بعد الانفجار الأولي. أعلنت السلطات اللبنانية بيروت منطقة منكوبة بعد أن ضرب انفجاران المدينة بعد السادسة مساءً بقليل. وحتى يوم الثلاثاء، وقت إعداد هذا التقرير، كان ما لا يقل عن 135 شخصًا قد لقوا مصرعهم وجُرح الآلاف، وغمرت شبكات التواصل الاجتماعي صور الأحباء الذين ما يزالون في عداد المفقودين. الأثر الاقتصادي المباشر مدمر. فقد أصبح ما بين 250.000 و300.000 شخص بلا مأوى -ما يقرب من 10 في المائة من سكان المدينة. ويحتاج آلاف الأشخاص إلى العلاج في المستشفيات المكتظة مُسبقاً بضحايا وباء "كوفيد-19"، وتقدر قيمة الممتلكات التي دُمرت بنحو 3 مليارات دولار. وهذا عبء منهك حقاً في بلد يكافح معظم مواطنيه لمجرد العثور على المال اللازم لتدبر أمر العيش اليومي. وحتى قبل التفجيرات، كان لبنان مسبقاً على حافة الانهيار. وقد دخلت أزمة اللاجئين الفارين من الحرب في سورية المجاورة عامها العاشر تقريبًا، حيث يكافح لبنان لتلبية متطلبات المساعدة لـ30 في المائة من سكانه الذين نزحوا جراء الحرب الدائرة في سورية. ولكن، ليس اللاجئون فقط هم الذين يكافحون من أجل تلبية احتياجاتهم، حيث سجل برنامج الغذاء العالمي أن ما يقرب من نصف اللبنانيين يكافحون من أجل الحصول على الاحتياجات الغذائية الأساسية. وفي حديثه إلى صحيفة "التلغراف" في حزيران (يونيو)، قال مارتن كوليرتس، الأستاذ المساعد في الجامعة الأميركية في بيروت: "بحلول نهاية العام، سنرى 75 بالمائة من السكان وهم يحصلون على معونات غذائية، لكن السؤال هو ما إذا كان الطعام سيتوفر أساساً لتقديمه لهم". أدى الوباء مسبقاً إلى إرهاق المستشفيات اللبنانية، وضرب "كوفيد-19" لبنان خلال فترة من العوز الاقتصادي غير المسبوق، حيث تناضل الدولة تحت وطأة ديونها. وقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 247 في المائة. ومع تدمير انفجارات المرفأ أطناناً من مخزون الغذاء المتبقي في لبنان وتدمير ميناء حيوي للبنية التحتية للبلاد، من المتوقع أن يتدهور الوضع بسرعة. وحتى قبل الانفجارات، كان اليأس قد ذهب ببعض المتظاهرين اللبنانيين إلى حد الانتحار. وكان وزير الخارجية اللبناني، ناصيف حتي، قد استقال في اليوم السابق للتفجيرات، محذراً من أن "لبنان اليوم يتجه إلى أن يصبح دولة فاشلة". بالنظر إلى تاريخ لبنان، سارع العديد من الناس، بمن فيهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إلى التفكير بتورط الإرهاب في الحادثة. ومع ذلك، لم يكن العنف هو الذي يسمم البلاد في العقود الثلاثة الماضية. إنه فساد. بينما ما تزال التفاصيل عن التفجيرات تظهر، فإن الرواية الرسمية للسلطات اللبنانية هي أن حريقًا في أحد المستودعات أشعل شحنة مصادرة من نترات الأمونيوم، كان قد تم حجزها من سفينة في الميناء في العام 2013، والتي يبدو أنها تُركت هناك منذ ذلك الحين. ولنترات الأمونيوم مكان في حوليات الإرهاب، مثل ما حدث عندما قام الإرهابي القومي الأبيض، تيموثي ماكفيغ، بتفجير طنين متريين من المادة الكيميائية الصناعية في أوكلاهوما سيتي في العام 1995، وهو ما أسفر عن مقتل 168 شخصًا وإتلاف 300 مبنى. ولكن، من دون حقد ماكفي وبمجرد إهمال قاتل، سُمح لـ2.750 طنًا متريًا من نترات الأمونيوم -أكثر من ألف ضعف الكمية التي استخدمها- بالبقاء في مستودع لأكثر من ست سنوات في قلب بيروت، "في انتظار المزاد" على ما يبدو. هل يمكن أن يكون إغراء الحصول على مكافأة مالية للمسؤولين قد أفضى إلى تكديس خطير لمواد شديدة الانفجار في قلب بيروت؟ طرح بعض الصحفيين اللبنانيين هذا السؤال بعد اكتشاف وثائق تتعلق بمصادرة الشحنة. تُظهر صورة تم نشرها على وسائل التواصل الاجتماعي، يُزعم أنها للمستودع المعني، عمالاً أمام مستودع مليء بأكياس زنة الواحد منها 1.000 كيلوغرام من نترات الأمونيوم مختومة بعبارة "Nitroprill HD"، والتي اقترح خبير مراقبة الأسلحة، جيفري لويس، أنها قد تكون علامة تجارية مقلدة من Nitropril، الذي تبيعه شركة أوريكا، وهو مادة متفجرة للتعدين. والحد الأعلى لتخزين Nitropril بأمان، وفقًا للشركة المصنعة، هو 400 طن متري. أما إذا كان الفساد، أو الإهمال، أو مزيج قابل للاشتعال من الاثنين هو المسؤول عن هذه الكارثة، فقد لا نعرف حقيقة ذلك أبدًا. لكن المسؤولية بالتأكيد لا تقع فقط على عاتق عمال الموانئ الذين فشلوا في إجراء التدقيق الأساسي أو أخذوا رشاوى لتجنب مشاكل العناية بالمخزون. إنها تقع على عاتق الأشخاص الذين وضعوها هناك والذين أنشؤوا نظامًا فاسدًا. وبينما انتهت الحرب الأهلية اللبنانية رسميًا في العام 1990، فإن معظم أمراء الحرب الباقين على قيد الحياة، الذين أفلتوا من المساءلة عن عقود من الفظائع، قاموا ببساطة باستبدال زي الميليشيات بالبدلات وسيطروا على ما تبقى من دولة لبنان الهشة بعد الحرب. جعلت الطبقات الحاكمة اللبنانية البلد ينزف حتى الجفاف مع إفلات شبه كامل من العقاب لأجيال. وقد أدى فسادهم وجشعهم إلى إغراق لبنان مرارًا وتكرارًا في أزمة، كل ذلك حتى من دون احتساب آثار الطائفية المتفشية في النخبة السياسية. ويخيم الفشل التنظيمي وعدم الكفاءة الروتينية على البلد. من أزمة خدمات النظافة التي تركت جبالًا من القمامة المتعفنة تخنق الهواء، إلى الاقتصاد المتعثر، يدفع التضخم المفرط والفقر الأسر إلى حافة الموت جوعاً، مع تحذيرات قوية من قدوم مجاعة محتملة. وقد أنتجت الأزمة الحالية أشهرًا من الاحتجاجات المتواصلة ضد الحكومة اللبنانية، ووحدت طوائف لبنان تحت شعار "كلن يعني كلن"، في إدانة للطبقة الحاكمة بأكملها، ونبذ جماعي للنظام السياسي الطائفي في البلاد. منذ حادث المرفأ، أعلن كل من حسن قريطم، مدير عام الميناء، وبدري ضاهر، مدير عام الجمارك اللبنانية، أنهما كانا قد حذرا من مخاطر المتفجرات وطالبا بإزالتها. وأعلنت السلطات اللبنانية منذ ذلك الحين أن مسؤولي الموانئ الذين لهم علاقة بتخزين وحراسة نترات الأمونيوم يخضعون للإقامة الجبرية. ويبدو أن لعبة إلقاء اللوم التقليدية التي ميزت السياسة اللبنانية المعاصرة "لم أكن أنا" قد عادت لتعمل الآن، حيث يعكف أمراء الحرب السابقون على تحويل المسؤولية تجاه أي شخص سوى أنفسهم. أما كيف سيعمل هذا مع شعب لبناني تجاوز مسبقاً نقطة التمرد المحتمل، فما يزال غير معروف. لكن الهاشتاغ الذي يتم تداوله باللغة العربية على تويتر، "علقوا المشانق" قد يجعل أمراء الحرب الفاسدين في لبنان يتساءلون عما إذا كان إفلاتهم من العقاب سيخضع للاختبار في القريب. لم يكن تشيرنوبيل مجرد حادث تجارب كارثي في محطة طاقة نووية سوفياتية. كان نتاجًا للكيفية التي خلقت بها الغطرسة المستوطنة والإهمال والوظيفية والسلطوية نظامًا سمح بحدوث تلك الكارثة. كان الحادث تجسيداً للاتحاد السوفياتي في نموذج مصغر، ونتاجاً مميتاً لعقود من الفشل السياسي والإهمال الذي ساعد في نهاية المطاف على إسقاط الأمة بأكملها. وكانت الحفنة من المسؤولين المحليين الذين أدينوا وحُكم عليهم مذنبين بما يكفي -لكنهم لم يكونوا الجناة النهائيين. وبالمثل، ليست قصة انفجارات مستودع بيروت مسألة حادث إنشائي أدى إلى مأساة. إنها حكاية الكيفية التي قامت بها عصابة من أمراء الحرب بتقسيم بلد، وحكمه بالتحيز وعدم الكفاءة واللامبالاة الكاملة إزاء المعاناة الإنسانية، بينما تسرق من مواطنيها العزل الذين لا حول لهم ولا قوة. ومثل تشيرنوبيل، يكاد يكون من المؤكد ألا يواجه أي من الناس المسؤولين حقًا عن هذه الكارثة العدالة على جرائمهم. *صحفي بريطاني-لبناني مستقل يركز على الصراع وحقوق الإنسان والشرق الأوسط. *نشر هذا التقرير تحت عنوان: The Beirut Blast Is Lebanon’s Chernobyاضافة اعلان