"باك ستيج"

يقف على أطراف حواسه ممسكا بمجموعة ورق وقلم ، والهاتف النقال باليد الأخرى، ينتظر بفارغ الصبر عسر ولادة الفكرة، كما يحلو له أن يسميها مديره "المسؤول الكبير في الدولة"، حين تتعثر الأسباب بوجهه، قبيل الاجتماعات المهمة. فهو الذي يجوب غرفة المكتب ذهابا وإيابا يعتصر وجنتيه بكف يده، وجبهته محشورة بين تجاعيد مفتعلة، يتمتم كلمات غير مفهومة بسبب مخارج حروفه المعتصرة بين اصطكاك أسنانه، وشفتيه المطبقتين. ثم يلتف إلى سكرتيره الشخصي كالعادة في نهاية النهار العسير، وينظر إلى عينيه مباشرة بطريقة تذكره بأنه قد حان موعد إطلالته على مسرحه الانفعالي ذاك، بدون أن تبدو عليه ولا بادرة للامتنان، بقدر ما يطالبه هو بالثناء عليه وشكره، لأنه منحه فرصة للتدخل!اضافة اعلان
يخرج المسؤول عبر باب غرفة المكتب المفتوح بذراع الموظف المؤدب، وبيده قلم ومجموعة ورق مكتوب عليها الخطة الخمسية المقترحة لمؤسسته العتيدة، وفوقها ملامح خطبته العصماء، إن طلب منه بشكل مفاجئ أن يقول شيئا.
تقف على أطراف الكلمات تستجمع ما بقي لها من مفردات، تصلح لأن تكمل مشوار افتتاحية البرنامج الذي لا تقدمه هي، ولا حتى يذكر اسمها في إعداده. تتذكر فجأة أنها لم تحتفظ بعد بصيغة الأسئلة التي سوف ترسلها على الهواء مباشرة لحبيب عمرها، الإعلامي الفذ الهمام، صاحب النظرات الثاقبة والرؤية المنفتحة على الاحتمالات كافة، والبرنامج الكبير الناجح باسمه وتوقيعه. اعتادت أن تكون معه في تلك الساعة البرامجية كل مساء، تبعث له الملاحظات والأسئلة والردود على الأسئلة، لتصل إلى اللوح الذكي الخاص به. إنها المساحة الزمنية الوحيدة التي تكون هي وهو معا على خط واحد، كما تتمنى. وهو، اللامع المتقد المفوه الفصيح، بمجرد أن تطفئ الكاميرا ضوءها الأحمر، يغلق عليها وعلى ما تبقى من أحلامها المتنازعة، يوما جديدا تاركا إياها كما الأرجوحة الفارغة، معلقة تنتظر هبوب هواء منعش، يعيدها إلى الحياة، في اليوم الآخر.
والأخير يقف على أطراف علمه وأفكاره وبحثه الحثيث، ينقر على لوح الحروف بسرعة ذئب البرية خلف غزال وحيد، الإحصاءات والمعلومات والدراسات والنتائج، يخاف أن تهرب منه إحداها وهو يركض بسرعة إلى النهاية التي يجب أن تسلم قبل بزوغ فجر اليوم القادم، لدكتور مادة النظرية الجافة. غدا صديقته المقربة جدا عليها أن تثبت جدارتها في البحث العلمي، وتكهرب زميلاتها وزملاءها الطلبة في المحاضرة، بعد أن تلقي بنفسها أمامهم ملخص البحث العتيد. تلقي أمامهم وهي تنظر في عيونهم، إلا عينيه بالطبع، تلتقط لحظة الانتصار والتفرد، وتنعم بالتصفيق الحار على جهودها العلمية الجبارة.
إلى هؤلاء الذين يعرفون أنفسهم، والذين لم يعرفوا بعد، أتمنى لكم عاما جديدا، شجاعا قويا ومدويا، تسمعون فيه أصواتكم لمرة أولى وأخيرة تقول لكل من ركب فوق أكتاف جهودهم وعطائكم وإخلاصكم لفكرة "للأسف غبية"، كلمة لا! فقد حان الوقت لكم حتى تتقدموا من خلف الكواليس إلى مقدمة الخشبة، وتنعمون أو تنقمون برد الجمهور، لا فرق. المهم أنه رد يخصكم أنتم، أنتم وحدكم يا حراس المسرح الأوفياء!