بالحكمة وحدها نمضي

هناك إجماع على أن ترتيب بيتنا الداخلي ضرورة لمواجهة التحديات الخارجية التي تبدأ من مشروع إسرائيل التوسعي، وصفقة القرن التي يطرحها الأميركان، والتحدي على الحدود الشمالية، وتراجع المنح العربية، وغيرها الكثير. رغم ذلك تأتي الحكومة وتخلط الأوراق، وتقدم سياسة استفزازية أنزلت الأردنيين للشارع.

اضافة اعلان

التذكير بالتحديات ضرورة ليكون الاحتجاج عقلانيا، والحوار هو الحل الذي ننشده جميعا، والغاية ترتيب بيتنا بشكل حقيقي ليكون منيعا قويا في مجابهة الظروف المحيطة به، وقادرا على تجاوز الأزمة المالية بأقل الخسائر.

أمس؛ ظهر حجم الغضب واليأس الذي يعتمر في قلوب الأردنيين، فالناس الذين فقدوا صبرهم وأضربوا احتجاجا ورفضا لأنهم وصلوا لنتيجة تؤكد أن كل سبل التواصل مع الحكومة تقطعت، وأن الأبواب مغلقة أمامهم، لذلك نزلوا للشارع احتجاجا ليوصلوا كلمتهم.

الرسالة الأهم أن الحكومة لم تفهمهم ولم تدرك حجم معاناتهم، لذلك أصرت على تمرير قانون الضريبة دون حوار حقيقي حوله يوصل لتوافق يحقق الحد المناسب من الرضا، مع علمها أن الأردنيين صبروا كثيرا على كل قراراتها السابقة، فجاء مشروع القانون ليفجر القصة.

حكومة الملقي حققت السبق؛ استطاعت باقتدار دفع الأردنيين للنزول إلى الشارع، وسجلت منجزا تاريخيا بأن تم في عهدها أوسع إضراب احتجاجا على سياساتها الجبائية.

أمس كانت عشرات الاحتجاجات والوقفات في مختلف مناطق المملكة، ولم تتمكن الحكومة من التحالف مع طرف واحد لأجل تمرير القانون، فلم تكسب تعاطف الأثرياء ولا الفقراء، فيما ناصبت الطبقة الوسطى العداء منذ لحظة إعلانه. لماذا؟ لأنه قانون جباية لا غير.

الأردنيون في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي قالوا كلمتهم للحكومة، وأجمعوا بنسبة كبيرة على رفض القانون وكل سياسات الجباية التي أنهكت جيوبهم واستنزفت مداخيلهم.

مشهد البارحة، بصراحة، هو نتاج سياسات هذه الحكومة التي فقدت كل أدوات التواصل مع المجتمع، ولم تنشئ حوارا صريحا مفيدا حول قانون مهم، فأغضبت المجتمع واستفزت الناس، حتى رأينا الآلاف من المهنيين والطبقة الوسطى في الشارع، بدلا من طاولة الحوار.

الحكومة بدورها لم تتراجع وظلت مصرة على المضي في إقرار القانون وشرح تفاصيله، وهددت المعتصمين بالعقوبات، لكن ذلك لم يمنع موظفين في القطاع العام من المشاركة بالاعتصام، وكلهم يرفعون شعار "معناش".

القصة لم تنتهِ؛ النقابات المهنية التي تبنت الإضراب حددت الأربعاء المقبل موعدا لإضراب جديد، والحكومة في الأثناء تقلل من شأن نتائج الإضراب وتؤكد فشله بامتياز. هذا ليس مهما، فالقصة ليست في تقدير عدد من نزلوا احتجاجا، بل في رسالتهم بأنهم لم يعد بإمكانهم تحمل المزيد.

ما الممكن لنزع فتيل الأزمة؟

الحل بالحوار متعدد الأطراف، فنحن نحتاج حوارا وطنيا يبدأ بعد سحب "القانون المستفز" ودفنه، لنبدأ حوارا يهدف لمراجعة النظام الضريبي كاملا ليكون إصلاحا حقيقيا عادلا وليس مجتزأ.

على الحكومة أن تتذكر أن ليس من حقها فرض ضرائب جديدة طالما هي غير موفقة في تحقيق النمو والتنمية التي ينشدها الناس، ما يعني حكما أن الحلول يجب أن تبقى بعيدة عن مداخيلهم التي لم تزد دينارا واحدا على مدى سنوات.

في الأثناء عليها أن تضع البدائل لتوفير 250 مليونا سيوفرها مشروع القانون الجديد، وذلك بضبط النفقات بحيث تفي بالتزامها لصندوق النقد الدولي وتحقق المؤشرات المطلوبة، وفي الوقت نفسه تعمل على ضبط إيقاع المشهد المحلي وإعادة الهدوء وامتصاص غضب الناس.

ليس لمصلحة أحد التصعيد في هذه المرحلة التي تتكاثر فيها التحديات الخارجية قبل المحلية، لذلك نحتاج جميعنا إلى قليل من الحكمة لسحب فتيل الأزمة قبل أن تتدحرج كرة الثلج. والحكمة تقتضي استيعاب احتجاج الناس واحترام حقهم في التعبير عن أوضاعهم. 

بالحكمة تجاوز الأردن أصعب من هذا المشهد وأشد من هذه الأزمة. والحكمة تقتضي عدم استفزاز الناس أكثر، فالقصة لم تعد مجرد قانون، وأيضا، القانون نفسه لم يعد شأنا حكوميا، بل هو ملف الدولة بكل مؤسساتها.