بالنسبة للعراقيين، الحرب ليست لعبة

أحمد تويج* - (فورين بوليسي) 30/5/2021
ترجمة: علاء الدين أبو زينة

لعبة الفيديو "ستة أيام في الفلوجة" تستغل المأساة الحقيقية لحرب العراق من أجل الترفيه على الغربيين

  • * *
    في لعبة فيديو سيتم إطلاقها قريباً يمارسها اللاعب، من منظور المشارك، "ستة أيام في الفلوجة"، يمكنك أن تعيش من جديد واحدة من أكثر المعارك التي خاضها الجيش الأميركي دموية على الإطلاق. ووفقًا للعرض الترويجي للعبة، الذي أصدره مطوروها، "ألعاب فيكتورا وهاي واير"، بعد أيام قليلة من حلول الذكرى الثامنة عشرة للغزو الأميركي للعراق في العام 2003، يتقمص اللاعب شخوص جنود مشاة البحرية الأميركية: تجد نفسك وأنت تتجول، بلا دعوة، عبر منازل العراقيين الأبرياء في محاولة لتطهير الفلوجة من الثوار في "معركة الفلوجة الثانية".
    الهجوم الذي شُن على المدينة في أواخر العام 2004، والمعروف أيضاً بـ"عملية فانتوم فيوري"، بعد عام من خطاب "المهمة أنجزت" الذي ألقاه رئيس الولايات المتحدة آنذاك، جورج دبليو بوش، أصبح يعد الآن موضوعاً للجدل في أحسن الأحوال، وجريمة حرب في أسوئها. وقد أدت "معركة الفلوجة الثانية" إلى مقتل ما يقدر بنحو 800 مدني عراقي وما يقرب من 100 من أفراد الجيشين الأميركي والبريطاني. وكان الصراع -والحرب كلها في الحقيقة- لحظة مؤلمة للغاية في التاريخ، والتي ما تزال آثارها تطارد الكثير من العراقيين. وقد تُرِكت دولة كانت مزدهرة ذات يوم في حالة يرثى لها، مع انهيار البنية التحتية وسقوط عدد هائل من القتلى المدنيين.
    إن الاستغلال المؤذي لهذه المآسي الواقعية من أجل الترفيه هو أمر مستهجن أخلاقياً، وسوف يؤدي إعطاء الناس الفرصة لممارسة اللعبة كجنود أميركيين في الفلوجة والقيام بجرائم افتراضية إلى تفاقم حالة الصدمة المستمرة التي يعانينها العراقيون في جميع أنحاء العالم فحسب. وما كان ينبغي إطلاق هذه اللعبة أبداً.
  • * *
    من المستحيل إعادة سرد قصة الفلوجة من دون إيراد سياق فظائع المعركة، خاصة بعد أن اعترف مطورو اللعبة في بيان صحفي أن "الأحداث التي أعيد إنشاؤها في ‘ستة أيام في الفلوجة’ ليست منفصلة عن السياسة". (جاء هذا فقط بعد رد فعل عنيف على بيانهم الأولي الذي قالوا فيه إنهم "لا يحاولون تقديم تعليق سياسي"). وعلى الرغم من اعترافهم المصطنع بالطبيعة السياسية للعبة، فقد فشل المطورون في فهم التداعيات التي تنطوي عليها إعادة إنشاء أحداث الفلوجة لأغراض ترفيهية. ببساطة، إن اللعبة ليست مجرد لعبة.
    كان الناشر الأول للعبة "ستة أيام في الفلوجة"، كونامي، قد أدرك العيوب المتأصلة فيها وتوقف عن إنتاجها منذ أكثر من عقد من الزمن بعد انتقادات واسعة النطاق من قدامى المحاربين في حرب العراق والسياسيين واللاعبين. لكن بيتر تامتي، العقل المدبر للعبة، لم يستطع أن يتخلص من الفكرة أبدًا. والآن، قام المطورون الجدد، بقيادة تامتي نفسه، بتحويل هذه الفترة من التاريخ إلى محاكاة، في محاولة لتبييض صفحة العدوان العسكري الأميركي بتحويله إلى أعمال "تضحية وشجاعة". وربما لا يكون من المستغرب عدم وجود مطورين عراقيين ضمن فريق الإنتاج، حيث اكتفى مطورو اللعبة بإجراء مقابلات مع 26 مدنيًا عراقيًا فحسب.
    في غضون أيام من إصدار المقطع الدعائي للعبة، وقَّع أكثر من 16.000 شخص، معظمهم من العراقيين، على عريضة تطالب بإلغاء اللعبة. وليس من الصعب معرفة أن هذه اللعبة معذِّبة بالنسبة للعراقيين. ويظهر أحد المشاهد المزعجة بشكل خاص في المقطع الدعائي اللاعب وهو يقتحم غرفة خافتة الإضاءة، حيث تعلو صرخات عائلة عراقية مسالمة يرتجف أفرادها أمام مشاة البحرية المدججين بالسلاح. وباعتباري عراقيًا بريطانيًا، نقلني هذا المشهد في لمح البصر إلى القصص المروعة التي عانتها عائلتي في البلد، التي عاش أفرادها في خوف دائم حيث دهم الجنود الأميركيون منازلهم مرة تلو المرة.
    لم يتمكن عدد لا يحصى من العراقيين من النجاة من هذه الغارات، كما اعترف أفراد خدموا في قوات مشاة البحرية الأميركية. وفي حديث لمدونة "زيرو بلوغ ثيرتي"، قال النائب السابق دنكان هانتر، وهو جندي متقاعد من مشاة البحرية الأميركية قاتل في معركة الفلوجة الأولى: "كنت ضابط مدفعية، وأطلقنا مئات القذائف على الفلوجة وقتلنا على الأرجح مئات المدنيين. وربما نكون قد قتلنا الكثير من النساء والأطفال".
    حاول مطورو اللعبة تبرير سبب تركيز منظورها على الأشخاص الذين يرتكبون تلك الفظائع -أفراد جيش الولايات المتحدة- لكن تفسيراتهم لم تكن مقنعة. وقال تامتي، الذي أصبح الآن الرئيس التنفيذي لشركة فيكتورا: "هناك قلة قليلة من الناس الذين يشعرون بالفضول إزاء ما يمكن أن يكون عليه كونك مدنياً عراقياً. لن يلعب أحد مثل هذه اللعبة".
    ويدعي البيان الصحفي عن اللعبة أنها تسمح لك، في مهمة واحدة فقط، "بتقمص دور أب عراقي أعزل يحاول إخراج عائلته من المدينة". ومع ذلك، فإن ما لا يتم ذكره هو أن الجيش الأميركي حاصر العديد من مثل هؤلاء الآباء داخل المدينة. وقبل العملية، تم إلقاء منشورات على الفلوجة، والتي تطلب مغادرة النساء والأطفال فقط. ونتيجة لذلك، مُنع الرجال الذين كانوا يحاولون الفرار من المغادرة لأن الجيش، وفقًا لتقرير وكالة أسوشييتد برس، "أصدر تعليماته للقوات الأميركية بإعادة جميع الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و55 عامًا" إلى داخل المدينة، لأنها "تعتقد أن العديد من رجال الفلوجة هم من مقاتلي حرب العصابات".
    كان القصد من الحذف والإغفالات التاريخية هو جعل اللعبة مستساغة للجمهور الغربي. وقد شاب معركة الفلوجة الثانية الكثير من العنف المفرط والمآسي. وقد اشتُهرت بسبب استخدام القوات الأميركية سيئت الصيت للفوسفور الأبيض، وهي مادة كيميائية تحترق فورًا عند ملامستها للهواء وتحرق اللحم حتى العظام. وقد اعترفت القوات الأميركية بذلك لك فقط بعد عام من المعركة بعد أن أنكرت استخدامها مراراً. وفي العام 2005، قال ضباط عسكريون أميركيون إنهم "أطلقوا مهمات ‘هُزَّ واخبز’ "على المتمردين، مستخدمين (الفوسفور الأبيض) للقضاء عليهم".
    ومع ذلك، قال تامتي: "لا أعتقد أننا في حاجة إلى تصوير الفظائع". حتى يومنا هذا، ما يزال الأطفال الذين نجوا من المعركة يعانون من آثار الأسلحة الحارقة. ووفقًا لمراجعة علمية، فإن الأطفال الذين ولدوا في الفلوجة بعد سنوات من الصراع يعانون معدلات وفيات عالية وتشوهات خلقية -بما في ذلك "الولادة برأسين، أو بلا رأس، أو بعين واحدة في جباههم أو بأطراف مفقودة".
    يعتبر البعض استخدام الفوسفور الأبيض في الفلوجة جريمة حرب، بما في ذلك جماعات حقوق الإنسان والعائلات العراقية التي حاولت، ممثلة بمنظمة Public Interest Lawyers، التي توقفت عن العمل الآن، محاولة مقاضاة الجيش البريطاني لدوره في المعركة، من دون جدوى. وقالوا إن استخدام الأسلحة الحارقة لاستهداف الأشخاص يتعارض مع بروتوكول العام 1980 بشأن حظر أو تقييد استخدام الأسلحة الحارقة (البروتوكول الثالث)، وكذلك اتفاقية حظر استخدام الأسلحة الكيميائية. وسبق أن أدانت واشنطن استخدام الرئيس العراقي السابق، صدام حسين، هذا السلاح ضد الأكراد العراقيين ووصفته بأنه "سلاح كيماوي". وفقط بعد الكثير من السؤال والاستنطاق المتواصل، أُجبر المتحدث باسم البنتاغون على الاعتراف بأنه "لن يكون من غير الممكن" أن يكون مدنيون عراقيون قد قُتلوا بالفوسفور الأبيض في الفلوجة.
    وعلى الرغم من وصف استخدام الفوسفور الأبيض خلال سرد الأجزاء الوثائقية من اللعبة، إلا أن هذه الحقائق يتم تجاهلها في ممارسة اللعب نفسها، والتي تقوم بتلطيف الواقع التاريخي ليتناسب مع حدود مُطلق النار من منظور الشخص الممارس مباشرة، والذي لا يمكنه ببساطة تقديم العدالة لقصص العراقيين الذين عانوا.
    بالنسبة للعراقيين، ليس هناك مفتاح إيقاف
    وجه جون فيبس، المحارب الأميركي المخضرم الذي شارك في الأحداث التي صورتها اللعبة، انتقادات إلى لعبة "ستة أيام في الفلوجة"، وقال: "هناك جرائم حرب ارتكبها الجنود الأميركيون، ومات الكثير من المدنيين العراقيين الذين لم تكن هناك حاجة لأن يموتوا. كان من الممكن تجنب وفاتهم تمامًا وكانت لا معنى لها على الإطلاق". ومتذكراً تجاربه في تلك الأحداث، تابع فيبس: "كانت هذه حرباً غير شرعية كبداية. … ما كان يجب أن نذهب إلى هناك أبدًا. كان هناك الكثير من الفظائع البشعة التي ارتكبت، لا سيما في الفلوجة".
    ويعرف أولئك الذين خاضوا الحرب أكثر من غيرهم أن اللعبة غالبًا ما تعكس الواقع. قبل المعركة، كان بعض الجنود الأميركيين يمارسون ألعاب الفيديو من منظور المشارك الذي يطلق النار لرفع معنوياتهم والاستعداد للحرب. وفي ما يشبه إلى حد كبير لعبة فيديو، تحوَّل قتل العراقيين بعد ذلك إلى تسجيل نقاط للجنود أنفسهم، وخاصة القناصين، الذين أصبحوا يفتخرون بعدد حالات "القتل المؤكد"، حيث احتفلت مشاة البحرية بأصحاب "عدد القتلى المؤكّد بشكل استثنائي" باعتبارهم "أبطال القتال" -حتى أن الجيش شجع الجنود على ممارسة ألعاب الفيديو لتحسين مهاراتهم القتالية. وفي الواقع، كان تامتي نفسه قد طور سابقًا مثل هذه الأنظمة التدريبية للجيش.
    ساعدت هذه الثقافة على صناعة أناس مثل جندي قوات البحرية الأميركية الخاصة (الفقمات)، كريس كايل، بطل قصة فيلم "القناص الأميركي" American Sniper الذي يظهر في فيلم السيرة الذاتية لكلينت إيستوود، والذي كان يفتخر بعدد العراقيين الذين قتلهم (يقال إن عددهم زاد على 255). وهي دورة مديمة للذات: أدى فيلم "القناص الأميركي" بعد ذلك إلى زيادة التهديدات المعادية للمسلمين في الولايات المتحدة، وغادر العديد من رواد السينما القاعات وهم يعلنون عن مشاعر مثل، "الآن أريد حقًا أن أقتل بعضاً من هؤلاء الملاعين". ويمكن أن يكون للعبة "ستة أيام في الفلوجة" تأثير مشابه.
  • * *
    تطمس "ستة أيام في الفلوجة"، التي تم تصميمها لتقديم محاكاة للصراع، الخط الفاصل بين ما هو افتراضي وما هو حقيقي، خاصة وأن الحرب الحديثة تُخاض بسهولة تشبه الألعاب من خلال برامج الطائرات من دون طيار. ويمكن للطيارين العسكريين الأميركيين التحكم في الضربات الجوية في الشرق الأوسط من أماكنهم المريحة في مدنهم في الولايات المتحدة، وإلقاء القنابل في جميع أنحاء العالم بسهولة مثل لعبة فيديو ومن دون أن يكونوا شهوداً مباشرين على العواقب.
    وعلى الرغم من أن ضربات الطائرات الأميركية من دون طيار ربما تكون قد فشلت في الفلوجة، إلا أن هذه التقنية انطلقت وأقلعت خلال رئاسة باراك أوباما، عندما تم توجيه ضربات بالمسيّرات في باكستان وأفغانستان والعراق من قواعد في نيفادا. وبطبيعة الحال، يزيد هذا من تجريد المدنيين من إنسانيتهم. وكما قال أحد مشغلي الطائرات من دون طيار، فإن هذا "يشبه إلى حد كبير لعب لعبة فيديو".
    في نهاية اليوم، بعد التجول في شوارع الفلوجة المليئة بالركام والمجسدة بالصور المتحركة في اللعبة، سوف يتمكن اللاعبون من إطفاء أجهزتهم وتقبيل أحبائهم وتمني ليلة سعيدة لهم قبل أن يزحفوا إلى أسرتهم.
    أما بالنسبة للعراقيين، فلا يوجد مفتاح لإطفاء التيار. وبينما تستمر آثار الحرب في إلقاء ثقلها على الحياة اليومية للمدنيين، فإنهم يستحقون ما هو أفضل من تسطيح صدمتهم وعذاباتهم وتحويلها إلى روايات ثنائية الأبعاد للترفيه الغربي. إن حيواتهم ليست لعبة.
اضافة اعلان

*محلل مستقل لشؤون الشرق الأوسط ومستشار لمنظمة "سند" لبناء السلام العراقية غير الحكومية. وهو أيضًا مصور صحفي وعمل مع عدد من المنظمات الإنسانية والحقوقية الدولية.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: For Iraqis, War Is Not a Game