برشلونة.. استحقاق الأسف وواجب الاعتذار

من المؤكد أن شعوراً ساحقاً بالخجل والأسف راود أكثرية الناس في طول بلادنا العربية وعرضها، وهم يتابعون عن بعد، بأسى والتياع، مشاهد صور المدهوسين في احد اهم شوارع برشلونة (شانزليزيه اسبانيا)، وأن حساً ثقيلاً بالعار والغضب والرغبة في التواري، انتاب من حدسوا سلفاً، وقبل أن تعلن السلطات الأمنية عن هوية القتلة، بأن الجناة هم من أبناء جلدتنا نحن في هذه المنطقة المنكوبة بالاستبداد والفساد والتخلف، وفوق ذلك الإرهاب، الذي انبثق من بين ظهرانينا، وروع شعوبنا قبل أن يروع العالم من حولنا.اضافة اعلان
ومن المؤكد ايضاً أن حالة من تبكيت الضمير قد طافت، على غير هدى في دواخل العارفين بفداحة الضرر الإضافي الذي لحق، جراء الفعلة الشنيعة، بالصورة العربية الإسلامية المشوهة أصلاً في أعين الاوروبيين، ممن باتوا يعتقدون أن كل مهاجر أو زائر منا لبلدانهم، إرهابياً أو مشروع إرهابي إلى أن يثبت العكس، وهي تهمة تلبستنا مع كل مشهد طعن أو دهس في شارع اوروبي، وحملتنا على التخفف من المسؤولية الاخلاقية بالقول؛ إن تلك الذئاب الشرهة للدماء ليست سوى أعشاب برية نبتت في حقولنا على حين غرة، أو أنها من صناعة أجنبية خالصة.
غير أن التحلل من مثل هذه المسؤولية الضميرية، لا يغطي الشمس بغربال، ولا يحجب الحقيقة الصارخة، أن هؤلاء الفتيان الذين لم يبلغ بعضهم الحلم، هم نواتج مجتمعاتنا المتهرئة، وأبناء موروثاتنا المشوهة، وسدنة خطابنا الديني والسياسي والعقائدي الغاصّ بالكراهية والحقد والتشدد، بذرهم في تربتنا الفقر والظلم وانسداد الدروب، وتكفلت برعايتهم أزمنة الخراب والانقسامات المذهبية والاقتتال على نصاب المشروعية والأحقية والصواب، فكانوا أول الأمر حرباً مرتدة علينا، وبعد ذلك سهاماً مسمومة أصابت معظم الأقوام من حولنا.
ويزيد من مشاعر الخجل والحس بالذنب، الممزوج بالقهر والغضب، إزاء المجزرة المروعة في برشلونة، الموصوفة كعاصمة باذخة لرياضة كرة القدم العالمية، أن هذه الفعلة الدموية غير المبررة بالمطلق، تعوزها أبسط المسوغات السياسية والأخلاقية اللازمة لكل حرب، حتى إن كانت المسوغات هشة ومزيفة وغير عادلة، خاصة أن اسبانيا ليست في الواقع العملي طرفاً في الحرب على الإرهاب، ولا ضلع لها في الغارات الجوية على الموصل والرقة أو سواهما، مما كان يمكن الدفع به، أو تفهمه بصعوبة، للتغطية على هذه المذبحة الهمجية.
وعليه، يستحق الشعب الاسباني عامة، ومواطنو برشلونة على وجه الخصوص، بهذه المناسبة المؤلمة، ليس فقط تقديم واجب التبرؤ من هؤلاء الصم البكم العمي، الذين لا يفقهون شيئاً، بل كذلك إعلان الأسف والتضامن والاعتذار بكل السبل الممكنة، من جانب العرب والمسلمين، الذين كانوا أول الضحايا، وأكثر من أساء لهم أولئك الكارهون لأنفسهم المضطربة، الحاقدون على مجتمعاتهم "الجاهلية"، لا سيما أن ما وقع في عدد من المدن الاوروبية يشي بأن هذه الظاهرة المجنونة قد تكون في أولها ولم تبلغ الذروة بعد، وأن الآفة قد أصبحت مستفحلة.
وأحسب أن ما جري من عمليات إرهابية في بلاد بعيدة عن صراعات الشرق الاوسط، بلاد ليس لها ناقة ولا بعير في شؤون وشجون هذه المنطقة المستباحة، مثال ما وقع في بلدة فنلندية نائية، وأخرى في سيبيريا القصية وغيرهما، ليست كلها من أفعال المنظمة الاجرامية الأشهر في تاريخ العالم "داعش"، حتى إن كان المجرمون الساذجون من البيئة العقائدية ذاتها، يضربون حيث يتسنى لهم ذلك، بجرعة كراهية مركزة، وحقد أعمى يدل على خراب روحي عميم، وضحالة إنسانية، أين منها الشجاعة التي تتراءى للناظر إلى أفعالهم في الوهلة الأولى.
وإذا كان صحيحاً أن الغرب لا يزال يكيل بمكيالين، ويعتمد معايير مزدوجة في كل ما يتصل بقضايا ومصائب شعوب هذه المنطقة المسكونة بأمراض مستفحلة، بما في ذلك الخلط بين "داعش" والمدنيين في المدن والبلدات المسيطر عليها من جانب التنظيم المتوحش، وما يثيره هذا الخلط من شعور قاتل برخص الدم العربي، والاستهانة بحيوات الأطفال والنساء والشيوخ، فإن من الصحيح ايضاً أن ذلك كله لا يبرر الشماتة، أو إبداء بعض التفاخر المكتوم لدى بعض الملوثين فكرياً، بأفعال من شأنها أن تزيد النار اشتعالاً، بحجة وأد الإرهاب في مهده.