برمجة الكمال البشري؟

استير دايسون*

من الصعب أن نفكر من الناحية النظرية في أي خدمة في عالم الكمبيوتر أكثر نبلاً من خدمة "مطلوب المساعدة". إذ تساعد هذه الخدمة الناس في البحث عن عمل يلبي طموحاتهم ويحقق إمكاناتهم، كما تساعد أصحاب العمل في البحث عن الأشخاص القادرين على استخدام بنيتهم الأساسية (سواء كانت أجهزة أو معدات مكتبية أو حتى منهجية تقديم الخدمات) بهدف تلبية احتياجات الشركات والمستهلكين في مختلف أنحاء العالم.اضافة اعلان
ولهذا السبب كنت حريصة منذ فترة طويلة على الاستثمار في مجلس الوظائف الأوروبي. ولكن عندما طُلِب مني أن ألقي محاضرة في تالين بأستونيا تحت عنوان "كيف نعثر على الأشخاص المناسبين؟"، امتنعت. وهذا لأن مجالس الوظائف تفشل في الممارسة العملية في تحقيق إمكاناتها. إن أفضل الأشخاص يعثرون عادة على الوظيفة المناسبة (أو يتم العثور عليهم) من خلال الاتصالات المهنية، وأغلب الأشخاص المتوسطين يعثرون على وظائف متوسطة أو وظائف أسوأ حيث يخسرون أي إمكانات كانوا يتمتعون بها. وحتى إذا بذلت قصارى جهدها، فإن كل ما تقوم به مجالس الوظائف يتلخص في تخصيص موارد المواهب النادرة؛ ولكنها لا تعمل على خلقها.
وفي النهاية، وافقت على إلقاء المحاضرة في تالين، ولكن شريطة تغيير العنوان إلى "كيف نعثر على الأشخاص العظماء وننمي مواهبهم؟".
تذكرت تلك الواقعة مؤخراً عندما جاءني أحد أصحاب المشاريع المبتدئة حاملاً معه فكرة تضمنت إنشاء سوق على شبكة الإنترنت لما أطلق عليه "مدربو الحياة" (أتعمد عدم الإفصاح الكامل هنا لأن الشركة ما تزال في طور الفكرة). والأمر الذي أدهشني أن الولايات المتحدة بها الآن نحو مائة ألف مدرب للحياة مرخص. ويتراوح هؤلاء المدربون بين مستشارين مخضرمين يحملون درجات علمية في علم النفس إلى أشخاص يحملون شهادات من معاهد تدريب إلى أشخاص غير مرخصين تصادف أنهم بارعون في هذه الوظيفة.
لذا فإن السوق لا تقتصر على المشترين (الأشخاص الذين يعانون من مشاكل عائلية، أو تحديات وظيفية، أو أي مشاكل شخصية أخرى تتطلب الحل) والبائعين (مدربي الحياة)، بل تشتمل هذه السوق أيضاً على المنتجين؛ مدارس التدريب التي تريد أن تكون الشهادات التي تمنحها ذات قيمة في السوق، والتي تبدي استعدادها لرعاية مثل هذه الخدمات أو الإعلان عنها.
أما عني، فأنا ساخرة ومثالية في آن. فأنا أفضل الحصول على النصيحة مجاناً من صديق حقيقي، أو ربما حتى من بعض الأشخاص على "الفيسبوك"، على أن أسعى إليها من غريب عاطل عن العمل لم ينفق سوى 2295 دولارا على دورة غير متفرغة لمدة خمسة أشهر.
ولكنني عندئذ فكرت في مسألة واجب هيئة المحلفين؛ النظام الأميركي الذي يسمح لأشخاص قد تكون ظروفهم مماثلة بإصدار الأحكام على أقرانهم. إن الأشخاص العاديين -سواء كانوا يتمتعون بقدر كبير أو ضئيل من التعليم، أو يملكون القليل أو الكثير من المال- يرتقون إلى مستوى المناسبة. فهم يولون اهتماماً كبيراً بالدراما التي يحيكها المحامون، ويحاولون تنحية انحيازهم، ويقررون مصير أخ لهم في الإنسانية.
لا شك أن هذه تجربتي الخاصة لا أكثر. فعن طريق الصدفة المحضة، تصادف أنني جلست مؤخراً إلى جانب رئيسة المحكمة العليا الأميركية السابقة ساندرا داي أوكونر على مأدبة عشاء، فسألتها: "أهو مجرد تصور مني، أم أن المحلفين يرتفعون حقاً إلى مستوى التحدي؟"، فأجابتني: "طيلة فترة عملي لم يحدث أن اختلفت في الرأي مع قرار المحلفين سوى مرتين".
هل يعني هذا إذن أن الدفع بشخص ما إلى دور رسمي يشتمل على تحمل مسؤولية ما قد يكون له على الأقل نفس التأثير الذي يخلفه على هيئة المحلفين؟ وبدلاً من جعل العلاقة رخيصة، فهل ينجح التدريب والأجر المناسب فعلياً في تحويل شخص عادي إلى مدرب ممتاز؟ وإلى أي مدى يشكل السياق أهمية، وإلى أي مدى قد يكون بوسع الناس تطوير العادات الطيبة عندما يواجهون تحديات مناسبة؟ لا أستطيع أن أجزم، ولكن قد لا تكون مسألة مجلس وظائف مدربي الحياة بالفكرة السيئة رغم كل شيء.
في نفس الفترة، اتصلت بي شركة تدعى "علوم المواهب"، والتي أعتقد عن يقين أنها تتبنى فكرة جيدة. وكان الاقتراح الذي عُرِض عليّ في غاية البساطة: استخدام الكمبيوتر ليس فقط في البحث عن الموظفين البارعين، بل وأيضاً لمساعدة الناس على التحول إلى موظفين بارعين. وهذا يعني جزئياً توليد البيانات اللازمة لتقييم ومضاهاة الناس مع الوظائف المناسبة؛ ويعني أيضاً محاكاة المواقف -خبرات التعلم- حيث يصبح بوسع الناس تطوير العادات، والمهارات، والمواقف التي يحتاجون إليها لمضاهاة احتياجات أي وظيفة بعينها أو صاحب عمل.
وتتلخص الخطوة الأولى في فكرة علوم المواهب في العمل مع رب عمل كبير وتقييم "الموهبة" بالاستعانة بمجموعة من الألعاب والخبرات التفاعلية: كيف يتعقل الناس الأمور ويتخذون القرارات؟ هل يطلعون على التعليمات أولاً أم أنهم يتفاعلون مع الموقف بحسب مقتضياته خطوة بخطوة؟ وهل تتغير إجاباتهم عن الأسئلة المتعلقة بسيناريو الإدارة اعتماداً على هوية أو جنس الموظف المقصر؟ وهل يتبعون الإجراءات بطريقة منهجية، أم أنهم يسلكون طرقاً مختصرة؟ وهل يبذلون جهداً أكبر تحت الضغوط، أم أنهم يستسلمون في مواجهة المصاعب؟... إلخ.
لا توجد إجابات مناسبة، بل هناك أنماط فحسب. فبعض الأنماط تضاهي الموظفين الناجحين في وظائف بعينها؛ وبعضها الآخر يضاهي الموظفين الناجحين في وظائف أخرى (فأنت تحتاج إلى سمات مختلفة في موظف مسؤول عن حقوق الإعلان أو في محاسب على سبيل المثال). وكل شركة، وكل نوع من الوظائف داخلها، سوف تكون له أنماط خاصة من النجاح (على النحو المحدد لمن يجب أن يبقى من يستحق الترقية). ففي شركة ذات خلفية مريضة، يتم تعريف النجاح من جانب الكاذبين والمتسلقين الاجتماعيين.
ولكن الهدف ليس مجرد اختيار الموظفين (داخل الشركات الجيدة في الظروف المثالية). فبعد ذلك يصبح في الإمكان الاستعانة بهذه الخدمة لتدريب الموظفين وتمكينهم من تحسين أحوالهم. وبوسعنا أن نطلق على هذا التدريب بالمحاكاة: فإذا كانت شركتك تعاني من نقص في المديرين الداعمين لتدريب الموظفين، فمن الممكن تغذية برنامج كمبيوتر خاص بالنماذج المرغوبة. ومن الممكن تصميم الألعاب وتمارين المحاكاة بحيث تساعد في تدريب ومكافأة أنواع معينة من السلوك: السرعة في اتخاذ القرار في مقابل الإفراط في المداولات، وتفويض المهام بدلاً من الاستئثار بكل العمل، وما إلى ذلك.
ويظل من غير الواضح إلى أي مدى قد تتسم هذه الفكرة بالفعالية، ولكنني أراهن عليها. إن التجربة تعمل على تشكيلنا، تماماً كما تعمل جيناتنا على تشكيل هيئاتنا (أو مواهبنا الفطرية)، والخبرة المكتسبة على شبكة الإنترنت أرخص وأسهل في صياغتها وتشكيلها. في الحياة الواقعية، قد يكون النجاح راجعاً إلى الحظ، وقد نتعلم من النجاح دروساً غير صحيحة. أما في اللعبة فبوسعنا أن نتأكد ما إذا كان النجاح يعلمنا الدروس الصحيحة.
* رئيسة شركة "EDventure" القابضة، وهي مستثمرة نشطة في مجموعة متنوعة من الشركات المبتدئة في مختلف أنحاء العالم.
خاص بـ"الغد" بالتنسيق مع بروجيكت سنديكيت.