بسطات الشوارع.. قواعد غير مكتوبة للإدارة ولحسابات الجدوى الاقتصادية

بسطات في أحد شوارع عمان-(تصوير: محمد مغايضة)
بسطات في أحد شوارع عمان-(تصوير: محمد مغايضة)

أحمد أبو خليل

عمان - رغم مظاهر العشوائية والارتجال التي تبدو على العمل في الشارع من خلال بسطات البيع المباشر للزبائن من المارة وعابري الطريق، إلا أن قدرا من التدقيق والمراقبة، والتعامل باحترام مع عقول العاملين في هذا القطاع، سوف يبين أن البسطة لكي تنجح، فإنها تحتاج لكثير من الحسابات والمهارات الإدارية والسلوك الرشيد اقتصاديا.اضافة اعلان
من حيث الجوهر، لا تختلف البسطة عن أية منشأة اقتصادية في السوق الرسمي، وقد يتجلى الاختلاف في الحجوم فقط بالدرجة الأساسية. إن العاملين على البسطات يقومون بكل ما يقوم به المستثمر أو صاحب المشروع من دراسة جدوى وحسابات التكلفة والمنفعة، ومصادر التمويل، وحساب التوقعات ودرجة المخاطرة، وغير ذلك. غير أن كل هذا يجري عادة من دون أوراق ومستندات ودفاتر. وسوف نرى فيما يلي أن العملية مع ذلك تشتمل على تعقيدات وتحتاج للذكاء والمرونة العالية.
كان الدكتور محمد يونس مؤسس ما صار يعرف عالميا بـ"بنوك الفقراء" قد انتبه إلى مهارة بشرية سماها "مهارة البقاء"، وقد استند إليها كواحدة من العناصر الرئيسية في بناء نموذجه التنموي، الذي بناه على خبرات الفقراء في إدارة حياتهم، وهو النموذج الذي من المؤسف أنه تحول في كثير من البلدان، ومنها بلدنا إلى قطاع "لا تنموي" يمارس عمله بقسوة وخاصة عندما يتعلق الأمر بالفقراء.
إن العاملين على البسطات يستندون بشكل رئيسي على مهارات البقاء تلك، بما ينسجم مع شروطهم الثقافية والاجتماعية. ويضاف إلى ذلك، أنهم يقومون باستثمار مهاراتهم في الشارع وفي سوق مفتوح ومطارد وملاحق ولا يستند إلى قانون وأنظمة وتعليمات.
الملاحظات الواردة في هذا التقرير تستند إلى حالة وسط البلد في عمان، حيث يتواجد منذ عقود طويلة سوق بسطات كبير ومتنوع يمتد على الشوارع الرئيسية والفرعية والساحات الفارغة.
إنه سوق امتلك مع الزمن قدرا من التنظيم من حيث نوع السلع المباعة، ومن حيث يوم العمل، وأوقات التبسيط، وهناك شبكة علاقات ومصالح متبادلة... إلخ.
أولا: إن الوصول إلى معلومات دقيقة حول الجوانب المالية عند صاحب البسطة، يعد من أصعب مراحل البحث في هذا القطاع، فمن جهة هناك ميل لعدم الافصاح، وخاصة إذا كان السائل باحثا أو صحفيا أو أي شخص يوثق الإجابات التي يعلنونها، فهناك نفور عام من الكتابة والأوراق. ومن جهة ثانية، وهي مهمة، فإن السؤال عن الدخل والمال في المهن الدنيا، يعتبر أمرا غير مرغوب اجتماعيا، ولهذا فإن الإجابات عادة ما تكون عامة وغامضة مثل: "الرزق على الله" أو "الحال مستورة"، وهم يعتبرون هذه الإجابات جالبة للبركة ومانعة للحسد، وهو ما يدخل شعبيا ضمن الحسابات المالية في النهاية.
ثانيا: إن الأرقام التي يمكن التوصل إليها بعد المزيد من التقصي المواظب، مهما كانت درجة صدقيتها، فإنها تصلح كمؤشر عام، لأن ما يميز العمل في هذا القطاع، هو التنوع والاختلاف بين موقع وآخر، أو بائع وآخر، أو بين يوم وآخر، أو بين موسم وآخر، أو باختلاف الجهة الرسمية المكلفة بالمتابعة والملاحقة والمصادرة.
ثالثا: هناك بسطات فردية، أي مملوكة من قبل فرد واحد، لكن المعروف ان العمل على بسطة بنجاح وليوم عمل طويل يحتاج لشخصين، وقد يكون الشخص الثاني عاملا بأجرة، أو شريكا. والأجور عادة تصرف يوميا أو أسبوعيا، وهي عبارة عن مبلغ محدد يضاف إليه "مصروف يومي" على شكل ساندويشات أو شاي أو دخان أحياناً. ولا يتلقى العامل أجره عند الغياب، إلا إذا كان الغياب بسبب الملاحقة والمداهمات المتواصلة أثناء الحملات الأمنية، أو في حالة التوقيف في النظارة في المركز الأمني، الذي قد يحصل بسبب شكوى "مقاومة" رجال الأمن.
رابعا: تشكلت في السوق مجموعات من محترفي العمل في البسطات الذين قد يمتلكون عددا من البسطات موزعة ومدارة بعناية، ففي واحدة من أشهر الحالات، كانت أسرة مكونة من أب وستة أبناء (ثلاثة منهم متزوجون)، ثم التحق بهم عدد من الأحفاد، يديرون ست بسطات كبيرة (على شكل عربات متحركة)، وهي متجاورة تقريبا، لأنها تبيع منتجات متنوعة (ملابس، نثريات، حلويات) وتشغل "مؤسسة البسطات" هذه ثمانية عاملين من خارج الأسرة، ولديها مستودع وباص صغير لنقل البضائع. في مثل هذه الحالة، تستدعي إدارة العمل تنويعا، تبعا للظروف: ففي فترات الملاحقة الحثيثة، قد لا يشغلون كل البسطات، أو يستبدلون العربات الكبيرة ببسطات أصغر حجما (فروش/ جمع فرش)، وبالطبع فإن أمور الحساب تكون هنا أكثر تدقيقا.
خامسا: أفادت المعلومات التي قدمها العاملون أن رأسمال البسطة في غاية التنوع، فقد تبدأ بسطة بمائة دينار، ولكنها قد تكون بأضعاف هذا المبلغ، وفي بعض الحالات قد تعمل البسطة على الطريقة المعروفة "برسم البيع" إذ تكون البضائع مملوكة من قبل تجار يسلمونها للعامل ويحصونها ويحددون الحد الأدنى لسعرها.
سادسا: يفضل العاملون على بسطات أن يكون مصدر التمويل شخصي، أي من أقارب وأصدقاء، وفي حالات أخرى يقيم العاملون علاقات ثقة مع التجار المزودين ببضاعة البسطات، وهو ما يوفر تمويلا مريحا.
سابعا: عند الاستفسار الدقيق، يتبين أن صاحب البسطة يحسب جيدا حجم المخاطرة المتوقعة، بما في ذلك عدد المرات المحتملة لمصادرة البسطة أو العربة أو البضائع، وحجم الرسوم التي يتعين عليه دفعها لاسترداد العربة، وفيما إذا كانت البضاعة من النوع القابل للاسترداد أم لا، فالخضراوات والفواكه لا تسترد مثلا. وفي بعض الحملات تشتمل المصادرة على الإتلاف الفوري من خلال وضع البضائع في كابسات النفايات.
ثامنا: في حالات التشديد الأمني العالي والحملات المتواصلة، يلجأ أصحاب البسطات إلى العمل بطرق لتلافي المصادرة والاصطدام بدوريات الأمانة، فهناك طريقة تعرف في السوق باسم "البيع بالعقل" أي من خلال الاتفاق الشفوي مع الزبون، ثم مرافقته إلى مكان بعيد عن حوض الشارع، في إحدى الدخلات أو المحلات المتعاونة، وهناك يستلم الزبون بضاعته.
تاسعا: هناك عاملون على بسطات غير مستقرة ليوم واحد أو لساعات، ويسمونها "بسطات طيارة" يكون هدف البائع الحصول على مصروفه ليوم واحد، وأغلب هذه البسطات تبيع الدخان، الذي لا يتلف سريعاً ويمكن العودة به عند اللزوم.
وأخيرا، من المؤكد أن الملاحظات الواردة أعلاه تخدم كمؤشرات فقط، لكنها قد تفيد في نقاش أساليب مقاربة حالات الفقر في الميدان، إذ من الملاحظ أن الجهات الرسمية وشبه الرسمية (منظمات مجتمع مدني وغيرها) العاملة في مجال مكافحة الفقر، تميل إلى الثقة بما لديها من نماذج معدة في المكاتب أو منقولة من تجارب في دول أخرى، وكثيرا من ينفق الكثير من الجهد والمال في ميدان التدريب على تطبيق هذه النماذج، وفي الأثناء تُغمض العيون عن تجارب الناس أصحاب الشأن، الذين صنعوا نماذجهم الخاصة وجربوها وطوروها كمهارات للبقاء والصمود.