بعيداً عن ذوي "الاحتجاجات" الخاصة

في البلد أجواء عامة تشبه أجواء الهبّات الشعبية، مع تعديل التعريف طبعاً بما يتلاءم مع الظروف والمعطيات. في هذه الأجواء درجة من الشمول، أو على الأقل الإحساس بالشمول، غير أنها مبعثرة من حيث الأهداف وأشكال التعبير وصنف الفاعلين. وتبرز أوضح مظاهر تلك الهبة من خلال الانترنت (فيسبوك، تويتر، يوتيوب... وخلافه). ولكن في بعض الحالات تجري محاولات الانتقال جسديا الى الشارع من خلال الاعتصامات والتجمعات الفعلية.اضافة اعلان
وبالطبع من المعتاد أن تستثمر الحركات الاجتماعية، في شتى الدول، وسائل وأدوات الاتصال والإعلام المتاحة إلى أقصى حد، وقد حصل هذا سابقاً مع الصحف، والمنشورات، ومع الإذاعات، وأشرطة الكاسيت... إلخ.
لكن هذه السطور معنية بنقاش نقطة واحدة فقط:
فقد جرت العادة أن تترافق الهبات الشعبية مع الابتهاج الشعبي عموماً، وذلك باعتبار التحرك دليلاً على حيوية المجتمع والناس. وعلى سبيل المثال، ما "نحتفل" بهبة نيسان 1989 في معان وباقي محافظات الجنوب، وما يزال الطلاب يحتفلون بما عرف بـ"انتفاضة اليرموك" (نسبة إلى موجة الاحتجاج الطلابي في جامعة اليرموك العام 1986). وعلى العموم، فإن كل من مر بتجربة مشاركة في أي احتجاج شعبي، نراه يعتبر ذلك ذكرى فخر وابتهاج في حياته.
غير أن الأمر مختلف هذه المرة، حيث تسود مشاعر القلق بدل الابتهاج، وخاصة كلما شعر الناس أن الهبة الشعبية "الافتراضية"، قد تتحول إلى هبة فعلية واقعية.
يحصل كثيراً هذه الأيام، أن يتواصل النشطاء عبر الانترنت بأدواته المختلفة، ويؤكدون عزمهم على مواصلة الاحتجاج، ويتبارزون في اختيار شعارات التحريض والتحشيد، ولكنهم غالباً ما يخفون في داخلهم استعداداً للتراجع، إلى أن يبادر أحدهم للإفصاح عما في داخله، فيستجيب الآخرون بسهولة، من دون أن يعني ذلك التوقف عن الاستعداد  لخوض التجربة مرة أخرى، أي الدعوة للاحتجاج مجدداً في أقرب فرصة.
الواقع أن هذا الصنف من الموقف "الحرج" جديد، وهو في حالتنا يعود إلى السنوات القليلة الماضية من تجربة التحرك الشعبي في بلدنا وفي البلدان الشقيقة. إذ باستثناء محترفي الاحتجاج لأسباب مختلفة بمن فيهم "المأجورون"، فإن هناك قلقا من اليوم التالي للهبة الشعبية، ولا يستطيع المخلصون لقضايا وطنهم وشعبهم، أن يتيقنوا من موقعهم ودورهم ومدى سيطرتهم "الوطنية" وشكل حضورهم في اللحظة التي تلي اندلاع الهبة.
يبدو أن دلالات المفاهيم الكبرى قد تبدلت في السنوات الأخيرة، فأنت اليوم عندما تقول كلمة "ثورة" أو "معارضة" مثلاً، فإنك تحتاج لبعض التوضيح كي لا تُفهم خطأً، بينما كانت مثل هذه المفاهيم تستخدم سابقاً بلا تحفظات لأن معانيها كانت موحدة إلى درجة كبيرة. لقد كان لمفردات مثل: الثائر والمعارض والمجاهد والقائد والمبادر والمُحرّض والمُحشّد.. معان معروفة لا تحتاج لكثير من الشرح، فقد كانت تترافق دوماً مع منظومة قيم أخلاقية إيجابية، أما اليوم فعليك أن توضح ما تقصده من كل مفردة! لقد ظهر جلياً أنه يوجد "ثوار" و"معارضون" و"مجاهدون" لكنهم في الواقع اعداء لأوطانهم ولشعوبهم، أو مجرد أدوات في أيدي الأعداء.
ما الذي يعنيه ذلك؟
لعل الحركات الشعبية أمام تحد من نوع جديد: لقد بدا واضحاً أن السلطات تشعر بقدر من "الاسترخاء" وهي ترى الشعب يتحلى بهذا القدر من المسؤولية (المعبر عنه بالقلق المشار إليه أعلاه)، ولهذا فإن مهمة من صنف جديد تطرح على المستوى الشعبي وهي: كيف يمكن للقوى الشعبية مواصلة طرح قضاياها مع المحافظة على سيطرتها على مجريات الصراع في إطاره الوطني وشروطه الوطنية، أي مع المحافظة على الدولة؟
ما تسمح بذكره مساحة هذا المقال أن هذه المهمة، في الجوهر، لها تاريخ واقعي، وأن تيارها تمكن من شق طريقه دوماً، وأن نواته ما تزال حية.