بغداد: المدينة التي يجب إحياؤها من جديد

مياه عادمة في شوارع أحد أحياء العاصمة العراقية، بغداد - (أرشيفية)
مياه عادمة في شوارع أحد أحياء العاصمة العراقية، بغداد - (أرشيفية)

دياري صالح – (أراب ويكلي) 13/3/2018

ترجمة: علاء الدين أبو زينة

ينتاب العراقيين الحنين إلى العقود الماضية. وليس لأن الماضي كان جميلا في حد ذاته، وإنما لأن الحاضر أسوأ بكثير مما اعتقدوا. ولذلك، يميلون إلى تذكر التاريخ القريب بألم. وهم يعرفون أن كل شيء قد تغير، وأن الزمن لن يرحمهم. وقد أصبحوا نهبا لمثل هذه المشاعر السيئة في خضم العديد من المشاكل الرهيبة التي يعانون منها، وليس آخرها الفوضى المكانية المنتشرة على نطاق واسع في مدنهم.
في السابق، كانت العاصمة العراقية، بغداد، مصدر فخر كبير. كانت فيها خدمات صحية جيدة، وشوارع وحدائق وأسواق ومؤسسات تعليمية. وخلال تلك الفترة، كانت للنساء حياة حرة حقيقية، ولم يكن مجبرات على ارتداء الحجاب لأسباب دينية. وبالإضافة إلى ذلك، كان مستوى الجريمة منخفضا جدا. ولذلك، قيل إن العديد من القادة العرب كانوا يتطلعون إلى تطبيق التجربة العراقية في مدنهم.
مع ذلك، فوَّتت فترة الحرب العراقية الإيرانية على العراقيين فرصة أن يصبحوا جوهرة التاج العربي. ومنذ ذلك الحين، بدأت بغداد في التراجع كمدينة حقيقية من المنظور الجغرافي والتخطيطي.
حوّل الغزو الأميركي للعراق في العام 2003، العاصمة العراقية إلى أسوأ مدينة في العالم. وقد عانت المدينة منذ ذلك الحين من الكثير من الانفجارات وموجات العنف. وبالإضافة إلى ذلك، أصبحت مدينة للحزن العميق الذي أسس لنفسه مكاناً في قلوب سكانها وذاكراتهم. وفوق ذلك أيضاً، ارتدت أسوار المدينة السواد. فخلال الحرب الطائفية التي اندلعت في العامين 2006-2007، كانت الإعلانات عن الجنازات، والشعارات الانتقامية، وقوائم المفقودين، تُشاهَد في جميع أنحاء المدينة. وأدى ذلك إلى مزيد من الاضطرابات والتعقيد في البنية الاجتماعية للمدينة. وعملت كل هذه الأمور على إعادة تشكيل أحياء المدينة وتعميق الانقسامات الطائفية بين سكانها. ونتيجة لذلك، أصبحت لدينا الآن جزر شيعية وأخرى سنية معزولة داخل تلك المدينة التي كانت ذات يوم منطقة حضرية غنية بالتنوُّع.
في بغداد، تتوسع العشوائيات وأحياء الأكواخ الآن في العديد من الاتجاهات الجغرافية. ونتيجة لذلك، أصبح المرء يشاهد فيها أنواعا مختلفة من التشوهات المعمارية. وقد حدث ذلك بسبب النمو السكاني السريع الذي لا يتفق مع عدد المساكن المتاحة. وباستغلال القوانين الضعيفة، بدأت الأسر بتوسيع ملكيتها إلى المناطق الواقعة خارج المخطط الرئيسي للعاصمة. واستفاد الناس من انخفاض أسعار هذه الأراضي لبناء تجمعات سكانية غير مخطط لها. وبذلك، أكدت بلدية العاصمة أنها لا تملك القدرة على التعامل مع النتائج البيئية لهذه المستقطنات العشوائية. وقد أصبح انتشار مخلفات المجمعات السكنية في شوارع بغداد أمرا شائعا، مما جعل هذه المدينة تعتَبر حالياً واحدة من أكثر المدن تلوثا في الشرق الأوسط.
للعشوائيات آثار أخرى كثيرة على بغداد. فقد أصبح النظام القبلي أكثر رسوخاً وتجذُّراً من أي وقت مضى. ولذلك، أصبحت بغداد تواجه الآن ما يمكن تسميته: إضفاء الريفية على الحياة الحضرية. ويترافق ذلك مع حملة عنيدة لأسلمة العاصمة العراقية. وتلقي هذه الأمور بظلالها على التفاعل الاجتماعي في هذه المدينة التي فقدت الكثير من العائلات العلمانية، وغير المسلمة، والمعتدلة التي اضطرت إلى مغادرة بغداد بحثاً عن النجاة والبقاء على قيد الحياة. أما بقية البغداديين، الذين لم تتح لهم الفرصة للانتقال إلى مكان آخر، فيعبرون عن كراهيتهم للمبادئ القبلية والدينية المتطرفة التي أصبحت تحدد أنماط الحياة في مدينتهم. وهم يحلمون باليوم الذي تعود فيه الحياة في مدينتهم إلى مسارها الطبيعي.
بالإضافة إلى ذلك، لا تملك مراكز الشرطة قواعد بيانات أو سجلات أمنية لأولئك الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة والعشوائيات. وفي واقع الأمر، يقوم المراهقون في هذه العشوائيات والأحياء الفقيرة بارتكاب العديد من الحوادث الإجرامية والإرهابية. ويلعب هذا الواقع دورا مهما في بث مشاعر الخوف والتوقع وزيادة الوعي بالأسوأ الذي يمكن أن يحدث في المستقبل.
من الواضح أنه يتم استغلال هذه العشوائيات لدوافع انتخابية. ومع ذلك، علينا أن نطرح السؤال: كيف يمكننا وقف تدهور بغداد في السنوات القادمة؟ إننا إذا اعتمدنا على السياسيين، فسوف تكون هناك المزيد من النكسات، وسوف نورث الأجيال القادمة مدينة مدمرة. وإذا سارت الأمور على هذا النحو، فإن مشاعر الاغتراب عن المدينة سوف تزداد بشكل فظيع فحسب.
إنني على ثقة من أن بالإمكان إنقاذ بغداد من هذا المصير السيئ وغير المستحق. وكنتُ قد قضيت نحو عام من التفرغ الأكاديمي في وارسو، عاصمة بولندا. وقد قرأت عن محنتها وزرت بعض الأماكن التي تعكس تفاصيل انهيارها. كانت وارسو قد دُمِرت تماماً في الحرب العالمية الثانية، لكن سكانها كافحوا بعد ذلك من أجل بعثها من جديد. وأصبحت تعتبر الآن واحدة من أهم المراكز الحضرية والثقافية في الاتحاد الأوروبي. وتستطيع بغداد والبغداديون أن يفعلوا الشيء نفسه.

*أكاديمي عراقي، يحمل درجة الدكتوراة في الجغرافية السياسية من بغداد؛ وما بعد الدكتوراة في العلاقات الدولية من وارسو. يركز على القضايا الجيوسياسية في العراق.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Baghdad: The City that Must be Revived

اضافة اعلان

[email protected]