بلاد العرب ليست أوطاني!

كنت حتى فترة قريبة جدا، أستغرب من أولئك الذين يحملون ما خف من أمتعتهم، وثقل من أحلامهم، بعد أن باعوا خزائنهم وألعاب أطفالهم، ليشتروا بثمنها تذاكر الغربة إلى المجهول. كنت أستغرب، بل وأشجب تصرفاتهم تلك، ملوحة بما يحفظه الوجدان من شعارات، وقصائد وأمثال شعبية.
كنت أردد كببغاء آسيوي جملا، يمكنها أن تعيد راحلا بحقيبة على ظهره، إلى الوطن. كنت أقول مثلا "كيف لك أن تسمع اسمك تنادي عليه، لغة أخرى، بطعم مختلف، لكنة جاهلة لنكهة الاسم ومعناه وسبب تسميتك به؟ كنت فعلا أقول هذا لأصدقائي المسافرين إلى الأبد، وأشدد على فكرة اللغة، بعد أن تستسلم فكرة الرائحة والطباع والعادات والحنين والعائلة، أمام جبروت الإغراء بالرحيل من أجل الحلم.
أقول كنت، لأنني لم أعد كذلك، ليس بعد أن صار للاغتراب معنى آخر. صحيح، ما معنى الاغتراب أصلا؟ حين نتحدث عن الغربة، فماذا يخطر ببالنا؟ الابتعاد، القسوة، الحزن، الخوف، البرد، الثراء، الحلم، الفرصة؟ ماذا أيضا؟ قصص الآخرين الذين جربوا الغربة، سواء من سافر أو من بقي ينتظر؟ مسرحية غربة والتي اختصر فيها الماغوط فكرة الغربة بحقيبة سفر فارغة، إلا من بعض الحنين، حيث الغربة هي الهجرة القسرية في وطنك؟ كلها تفسيرات مقبولة وأحترم من يرددها، بعد أن تخليت شخصيا عن دور الببغاء الآسيوي!
فمنذ فترة غير بسيطة بدأت أتلمس جلد أربعة جوازات سفر، تعود لي ولبقية أسرتي الصغيرة، في حقائب يدي، كلما فتحت إحداها محاولة أن أبحث عن شيء ما يزال صالحا للاستعمال على هذه الأرض. أحمل جوازات السفر إلى حيث لا وجهة محددة، اللهم شعور يمهد لمشاعر متقدمة، آن لها أن تتحول إلى قرارات. أو لعله قرار واحد، الهجرة.
نعم، فلا اللغة ولا الرائحة ولا الحنين ولا حتى الأهل "نقطة ضعفي"، قادرون أن يزحزحوا الفكرة من داخل حقيبة يدي. إنها الكماشة يا سادة؛ الكماشة التي لم أكن أراها أساسا كماشة، قبل اليوم. كان اسمها ضيقا سيفرج، أو كربة ستعدي، أو حزنا سيزول، أو خوفا سيتلاشى. كان الأسماء كلها، والألوان القاتمة كلها، دون أن ألحظ أنها كماشة، تغلق وتغلق وتغلق، حتى تكاد تعصر المبررات والتطمينات والأماني و.. البدايات التي لم تفتأ تبتدئ، حتى تنتهي بالعام نفسه، بالشهر نفسه، والله أستحي أن أعترف أنها أحيانا انتهت باليوم الذي بدأت فيه! يااااه من الصفحات الجديدة، التي طالما فتحتها للعلاقة التي تربطني بالوطن، على وعد منه أنه سيتغير، سيتبدل، مرة لأنه متعاطف معي ومع أولادي وجيراني، ومرة لأنه مضطر أن يفعل، من أجل المنح والهبات والسياسات والمجاملات. ثم ماذا؟ لا شيء! لا شيء طالما الأوطان يقومها أقوام ويصنعها أقوام ويلوك بسيرتها أقوام، ويدمرها أقوام .. فإذا كان الله لا يغير ما بقوم، حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهم لا يفعلون، فهل أطمح أن يتغير الوطن من أجلي، ومن أجل عيالي وجيراني؟.

اضافة اعلان

المغيرون الحقيقيون، صحبي الحالمون الذين لا تطأ أقدامهم الأرض. فالأرض حتى لا تتسع للأحلام، التي تعلمنا منذ نعومة أظفارنا أن مطرحها السماء. أما الأرض فهي بالكاد تتسع لقبور الحالمين، ورؤوسهم الثقيلة! فلمن لا يزال يتعثر بكلمات "بلاد العرب أوطاني" وهو يحفظها لإبنه من كتاب اللغة العربية، للصف الرابع ابتدائي أقول: دع عنك تلعثم الحروف اللا رادي، ولا تخجل من دمعتك أمام الولد. لا تريد أن تهاجر، ابق. لكن لا تسدي لي النصيحة التي كنت أتبجح بها، قبل اختطاف الربيع. فأنا أفضل أن أموت من البرد ألف مرة، في بلاد الغربة، على أن توخزني شوكة الورد، الذي زرعناه في الوطن.

@HananAlSheikh

[email protected]