بلاغة الصورة "المسكوفية"

منذ أن حل التصوير الضوئي محل الرسوم اليدوية، قامت الصورة، تدريجيا، مقام شاهد الإثبات على صدقية واقعة بعينها، وبرهاناً يعتد به على موثوقية رواية خبرية جرت فصولها بعيداً عن أعين الناس. وتحولت الصورة المتحركة، فيما بعد، إلى ركن ركين في عوالم التوثيق والإعلام والقضاء، ثم آلت مؤخرا إلى أداة ناجعة في ضروب الحرب النفسية، والصراعات السياسية والحرب؛ إذ صار كسب معركة الصورة أهم من كسب الأرض في بعض الأحيان.اضافة اعلان
وقبل أن ندخل عصر الصورة من أوسع أبوابه، لاسيما بعد انفجار ثورة المعرفة، وهيمنة تكنولوجيات البث الفضائي، ووسائل التواصل التفاعلية، غنى عبدالحليم حافظ، في ستينيات القرن الماضي، لتلك الصورة الساحرة من زمن الأبيض والأسود، زمن "الترانزستور" والفوتوغرافيا والرومانسية الناصرية: "صوّر صور يا زمان، كلنا كده عايزين صورة، صورة للشعب الفرحان تحت الراية المنصورة".
لعبت المشاهد المصورة بكاميرات الفيديو، وما تزال، دوراً استثنائيا في مجرى بعض المعارك الطويلة. وأدى بثها على نطاق واسع، إلى خسارة حروب كبرى، وهزيمة جيوش كانت تتقدم في الميدان. ولعل أشهر هذه الصور، تلك التي بثتها التلفزة الأميركية، أوائل السبعينيات، لفتاة فيتنامية كانت تركض في الشارع وجسدها يشتعل بالنابالم. كما انطبعت في الذاكرة العامة صورة الفتى محمد الدرة، الذي قتلته إسرائيل بين أحضان أبيه في غزة العام 2000.
بعد ذلك انهمرت الصور على صدر الصفحات الأولى للصحف، وشاشات التلفزيون، ولاحقاً على الشبكة العنكبوتية، لتحدث ما يشبه الزلزال في سياقات الرأي العام؛ مثل صور سجن أبو غريب في العراق، وما تلاها بعد حين من مشاهد أخرى مروعة، فاضت بها خزانات العنف العراقية والسورية؛ سواء أكان ذلك على أيدي الاحتلال، أو "الحشد الشعبي"، أو قوات الأسد، وحدث ولا حرج عن مشاهد القتل بدم بارد ضد فتيان الهبة الشبابية الفلسطينية الراهنة.
أسوق هذه المقدمة المطولة، كي أصل إلى المشاهد المنتقاة بعناية من شريط زيارة بشار الأسد السرية إلى موسكو، وأمعن النظر ملياً في بلاغة صورة الزائر المتوحد وحدة الذئاب السيبيرية، ليس للتخمين بشأن ما إذا كان الأمر استدعاء على عجل أم كان غيره، ولا لتتبع الإشارات والتلميحات الصادرة للضيف من القيادة العليا الروسية؛ وإنما لإجراء ما يشبه التحليل النفسي لحركات ونبرة ومظهر وإيماءات المسافر وحده، بعيداً عن عرينه.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، والأقدار لا تكف عن السخرية، فلم يكن من قبيل التشفي أن يستذكر كثير من المراقبين، وهم يتابعون زيارة الأسد الدراماتيكية هذه، مشاهد زيارات مماثلة، كان يقوم بها أمراء الحرب في لبنان، إبان سطوة النظام الأمني المشترك، إلى العاصمة السورية. إذ كانت تلك الزيارات تتم بالاستدعاء، فيما تبدو من حيث الشكل حافلة بالإجراءات البروتوكولية اللائقة. فبدا الأسد داخل الكرملبن، وكأنه يشرب من الكأس ذاتها التي شربت مرارتها حتى الثمالة، رموز الطبقة السياسية اللبنانية.
وبالدخول إلى علم النفس التحليلي، ولو على نحو غير متخصص، ومقاربة صورة الأسد وهو يجلس مصغياً أمام أركان الدولة الروسية، فإنه لن يفوت المرء رؤية شخص مكسور، مرتبك ومتلعثم، وزائغ البصر، يوزع ابتسامات لا معنى لها، يداري شعوراً داخلياً بالاختطاف عنوة، ويخشى على حياته. إذ كان المستجوب يهز رأسه بالموافقة، ويحاول الظهور كمن فهم الرسالة. كما بدا الرجل أنه ذهب إلى موسكو على عجل، بلا إرادة أو رغبة ذاتية (بلا نِفس)، بدليل أنه لم يكن حليق الذقن تماماً، وبغير هندام كامل، وفوق ذلك كان نحيلاً وباهتاً، وغير واثق من نفسه.
أود أن أختم هذه القراءة الاسترجاعية، التي لا شأن لها بالرسائل الضمنية لهذه الزيارة، أو بتداعياتها السياسية المحتملة، بنكتة لبنانية تطابق واقع الحال، فوق أنها ذات مغزى، راجت بقوة في تسعينيات القرن الماضي، ملخصها أن أحد أمراء الحرب المدمنين على زيارة دمشق آنذاك، سُئل يوما من أحد مرافقيه في طريق العودة، عما إذا كان الفيل يطير. فنهره معلمه بشدة: ألا تعلم أن الفيل لا يطير. فرد المرافق بأنه سمع ذلك من أحد حمايات أبوجمال (عبدالحليم خدام). فاستدرك الأمر متلعثما: الفيل لا يطير مثل العصفور، ولكنه يرفرف على علو منخفض كالدجاجة!