بماذا ينشغل الناس؟

من المفترض أن الانتخابات هي المسيطرة على الأجواء العامة وأحاديث الناس وانشغالاتهم أثناء فترة عطلة العيد الطويلة. وهذا صحيح إلى حد ما؛ ولكن ليس في كل الأحيان. وليس الانشغال بالانتخابات بحد ذاتها، فالانتخابات وفق الانطباع العام سوف تمر. لكن السؤال الدائم الذي لا يغادر أفواه الكثير من الأردنيين خلال هذه الأيام: ماذا في نهاية اليوم؛ ماذا بعد الانتخابات؟ الناس ينتظرون شيئاً ما، أو لنقل إن نتائج الانتخابات بحد ذاتها، ونوعية المجلس المقبل ليست أولوية، بل المهم لديهم ما إذا كان هذا الاستحقاق الدستوري سيشكل بداية لمرحلة جديدة. اضافة اعلان
أولويات الأردنيين منذ عدة سنوات لم تتغير، ما يفيد بأن الحياة لم تتغير كثيراً. وهو الأمر الذي ينعكس بشكل مباشر في نبض الناس اليومي، وشؤون حياتهم وتفاصيلها الصغيرة، كما تؤكد استطلاعات الرأي المتكررة. وتدور تلك الأولويات حول مشكلتي الفقر والبطالة، ومواجهة الفساد المالي والإداري، ثم الطموح بإجراء إصلاحات سياسية. وفيما يتقدم الحراك السياسي المحلي مرة ويتراجع مرات أخرى، لم يلمس الناس تغيرات حقيقية تصل إلى تفاصيل العمق المجتمعي، رغم كل ما يقال ويتردد حول الإنجازات التنموية، فالحلقة الضائعة في أدبيات الحكومات الأردنية المتعاقبة تتكرر في ضعف القراءة الاجتماعية للتحولات الاقتصادية وما تنطوي عليه من أرقام قد تبدو في كثير من الأحايين خادعة. والمشكلة الحقيقية تتأكد حينما تتحول إنجازات الإصلاح الاقتصادي والإداري وغيرهما إلى رنين مزعج يزيد من غربة القواعد الاجتماعية ويضاعف من متاعبها.
في أحاديث الناس، وأقصد القواعد الاجتماعية، جرح يضرب عميقا في الثقة العامة. فرغم أن السنوات الأربع الأخيرة على أقل تقدير شهدت جهودا وطنية مهمة في تطوير منظومة النزاهة، ولم تشهد تسجيل قضايا فساد كبيرة، إلا أن الفساد الانطباعي ما يزال مهيمنا في هواجس الناس. إذ لم تستطع المؤسسة العامة ترشيد وعقلنة المساءلة المجتمعية وتنظيمها، فالناس يتذمرون من الفساد على الفارغ والمملوء، ولا يعملون أي شيء ذي جدوى في هذا الشأن. أي إن ثقافة المساءلة المجتمعية تجدف عكس ما يخدم بناء قاعدة صلبة للمساءلة والنزاهة، ومع هذا يبقى الناس ينتظرون حدثاً ما، ما يعني أن الإيمان بالإنجازات الكبيرة ما يزال يداعب الخيال.
العمق الاجتماعي للديمقراطية يتحقق حينما نخلق توازنا بين السياسية الدنيا والسياسة العليا؛ أي اتساع القاعدة الاجتماعية المؤمنة بالإصلاح والمعتقدة بالديمقراطية طريقا للحل وأداة لتغير نوعية حياة الأفراد والجماعات نحو الأفضل؛ بمعنى أن نبحث عن عمق الديمقراطية في القواعد الاجتماعية العريضة، ولا نكتفي بإدارة الصراع والتوافق بين النخب، وبحيث يكون حضور المطالب الديمقراطية ليس مجرد حضور وعمل نخبويين، بل يذهب عميقا في المجتمع والحياة اليومية وفي الثقافة الشعبية، ويتجسد في المجتمع المدني الفاعل. فالعمق المجتمعي للديمقراطية يعني التحول الكيفي العظيم الذي يجعل من الانقسامات الاجتماعية الحادة حول الأديان والمذاهب والإثنيات والثقافات الفرعية والجهات والأصول والمنابت والفروع والعشائر والحارات والأندية وغيرها، حالة من التنوع داخل الوحدة، وبالتالي مصدرا للثراء وقوة المجتمع.
علينا أن ندير عقارب التفكير السياسي نحو السياسة المحلية؛ نحو دمج الناس في السياسات العامة وتوسيع قاعدة الحوار حول الخيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وربما سنكتشف، كما يحدث في أعرق الديمقراطيات، أن العمل الديمقراطي الذي يقود الإصلاح وينعكس على حياة الناس يحتاج أن تكون قاعات البرلمانات انعكاسا لما يدور في قاعات البلديات والمجالس المحلية وليس العكس.