بنت الجيران

ما من أحد منا لم يختبر في صباه الحب؛ فهو شعور إنساني يتولد في النفس تجاه شخص أو أشخاص يكونون موضعا لهذه المشاعر وهدفا لها. وقد يقابل الحب بشعور مشابه، فتنشأ علاقة، أو قد يستمر كشعور يعتمل في صدر صاحبه من دون أن يقبل به الآخر، فيتحول إلى حسرة وخيبة ربما يصعب تجاوز آثارها. وفي الحالة التي يتبادل فيها الأفراد مشاعر الحب، يشعر أطرافه بالزهو والمتعة، وتتجلى إنسانيتهم وهم يعيشون متعة الاستكشاف لجماليات ذواتهم في عيون ومشاعر وتعابير واهتمام شركائهم.اضافة اعلان
وبالرغم من أهمية الحب كمصدر للطاقة الإيجابية التي تحافظ على البني الاجتماعية وتسهم في صيانتها وتدعيمها، إلا أن أكثر أنواعه إثارة وحيوية وفعالية، هو الحب الذي ينشأ بين الذكور والإناث. في تاريخ الكثيرين منا شكل ابن الجيران أو ابنة الجيران الحب الأول الذي ساعدنا على اكتشاف نضجنا وشبابنا، وعرفنا متى تتسارع نبضات قلوبنا وتتعرق أكف أيدينا وننسى مداخل بيوتنا.
في الزمن الذي كان الناس يعملون في مراعيهم وبساتينهم وحقولهم وأحيائهم، كان الجيران يشتركون في الفضاء العام والمرافق، ويختلط الأفراد، صغارا وكبارا، لدواعي التعاون والألفة والإحساس الجمعي بالمصير المشترك. وقد كانت القرابة والروابط الدموية عوامل أساسية ومهمة في تصميم البيوت وتحديد نوعيتها وحجمها وشكلها وتوزيعها، والأشكال التي تتخذها خرائط التوزيع وهندسة الممرات والمداخل والفضاءات والمرافق والملحقات المشتركة والخاصة بكل وحدة من الوحدات المكونة للأحياء "الحارات".
على أرض هذه البيئة التي صممها السكان لتناسب احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، تنشأ علاقات أفقية وعمودية متنوعة، تسهم في إيجاد النسيج الاجتماعي وتشكيل الروابط وتحقيق أقصى درجات التماسك والتعاضد الاجتماعي. ووسط هذه البيئة وما يحكمها من أعراف وتوقعات وتقاليد، تنشأ علاقات الاستلطاف والإعجاب التي قد تتطور إلى حب ينتهي بالزواج وسط الإقرار الضمني والمباركة العلنية.
القصص التراثية التي تحولت إلى أعمال درامية، تحمل في طياتها تفاصيل عشرات قصص الحب المتبادل وصموده في وجه الضغوط الاجتماعية ومحاولات إجهاضه من قبل العذال والحاسدين.
اليوم، تلاشت أنماط الجيرة التي عرفناها، وتبددت قصص وروايات الحب التي ولدت في الأحياء العتيقة برعاية الأمهات ومعرفة الصديقات وكل أجهزة وأنساق الحماية والرعاية التي رعت العلاقات النبيلة وحافظت عليها لتشكل نواة لأسر محبة مترابطة.النمو المطرد للمدن، ونشوء الإسكانات والضواحي، أتاحا لآلاف الناس أن يقيموا في أماكن بعيدة عن أعمالهم وأصدقائهم، حيث أصبحوا ينشطون ويمارسون حياتهم في أماكن ومرافق خارج حدود عنوان السكن. غالبية سكان المدن اليوم يقطعون مسافات طويلة أو متوسطة لإيصال الأبناء لخدمات التعليم أو الرياضة والتسلية أو حتى العمل. والقليل من سكان شقق العمارات والفلل يهتمون لمعرفة الجيران، أو يبدون استعدادا للتفاعل معهم.
في الزمن السابق على نشوء المدن العملاقة ومبانيها الشاهقة وضجيج سياراتها وحافلاتها، كانت الأحياء ومداخلها ميادين للقاء الأسر، وساحات للعب الأطفال وتلقيهم للرعاية والإشراف الطوعي من كل البالغين الذين يساهمون في حماية الفضاء الذي يتحرك وينشط فيه الأطفال من كل ما يمكن أن يهدد سلامة نموهم وبراءتهم.
معظم اليافعين واليافعات اختبروا مشاعر الإعجاب والحب الأولى مع أبناء وبنات الجيران، حيث كانت النظرة الأولى والابتسامة الأولى من على أسطح المنازل وفي أيام الشتاء المشمسة أو بالتزامن مع موعد أغنية أم كلثوم على أثير إذاعات البلدان المجاورة.
آلاف الرجال والنساء من الآباء والأصدقاء، حرصوا على أن يحافظوا على ذكرى خفقات قلوبهم وتخليدها من خلال ارتباطهم بالشركاء الذين أشعلوا في صدورهم الشوق، وأدخلوهم إلى عوالم العشاق، فأسسوا معا أسرا ألغت الفوارق بين الجار والجار.