"بنغازي مدينة الصبر"

مقاتل يشارك في المعارك التي تشهدها مدينة بنغازي بشكل متواصل منذ الاطاحة بنظام القذافي -  (أرشيفية)
مقاتل يشارك في المعارك التي تشهدها مدينة بنغازي بشكل متواصل منذ الاطاحة بنظام القذافي - (أرشيفية)

د. هناء الصديق القلال*

العنوان هو "هاشتاغ" أطلقه أبناء بنغازي لمحاربة الدمار والنزف والمعاناة التي تعاني منها المدينة، جراء الحرب والانقسامات السياسية والصراع على السلطة. فبنغازي؛ مدينة الحراك والمطالبات المدنية والمطالبة بالمؤسسات ووحدة الوطن، كانت منذ البدء مدينة التغيير في ليبيا.اضافة اعلان
إذ منها انطلق الملك إدريس الأول، أمير برقة، لاعلان استقلال برقة من عاصمتها بنغازي. ثم انطلق منها لدعم استقلال ولايتي طرابلس وفزان، وتأسيس المملكة الليبية المتحدة في العام 1951.
ومن بنغازي أيضا ظهر انقلاب القذافي في العام 1969. كما منها انطلقت أغلب الحركات ضد القذافي منذ العام 1974، ثم العام 1980 إلى 2006، وصولاً لثورة شباط (فبراير) 2011. ومنها كذلك استمرت المطالبة بتصحيح مسار الثورة في 12 كانون الأول (ديسمبر) 2011، والمطالبة ببناء المؤسسات واحترام الدولة المدنية، والتداول السلمي للسلطة.
بنغازي كانت وما تزال مركز التغيير والصراعات والتنوع. ولعل من أسباب قوتها أنها في مكوناتها هي ليبيا الصغرى؛ أي لا ترتكز على القبيلة، بل على المواطنة. لكن هذا قد يكون سبب ضعفها أيضا. فما تطالب به لم يكن ما يطالب به آخرون دوما، إذ حاربت من أجل وطن، فدفعت الثمن غاليا. فقد تركت أبوابها مفتوحة، فتغلغل التطرف فيها، وباقي أبنائها يتصارعون من أجل الوطن، وآخرون انقسموا بين الصراعات الثنائية، وانزلقوا للعبة "مع وضد"؛ مع الثورة وضد الثورة، مع الفيدرالية وضد الفيدرالية، مع هذا الحزب وضد الحزب الآخر... ولم يفطن أبناء المدينة إلا والاغتيالات تزلزل مدينتهم.
فكان أول اغتيال في 27 تموز (يوليو) 2011. ثم تلاحقت الاغتيالات للعسكريين والشرطة. فدخلنا في لعبة من يقوم بالاغتيالات؛ الأزلام (وهنا يقصد رجالات النظام السابق) أم الإسلاميون؟ ولم يهتم أحد بالقبض على المتهمين وحماية المدينة، وإثبات من يقوم بالاغتيالات حقا؛ بل سادت لعبة تبادل الاتهامات، وترك الباب مفتوحا لمزيد منها. وتفاقم الموت في بنغازي، ليصل ذروته في أواخر العام 2012، حين تم اغتيال السفير الأميركي واثنين من رفاقه في القنصلية الأميركية بالمدينة. وقد سبقت ذلك محاول اغتيال رئيس بعثة الأمم المتحدة لدعم ليبيا أيان مارتن، كما محاولة اغتيال وفد دبلوماسي بريطاني، إضافة إلى تفجير مركز للصليب الأحمر، والعديد من المؤسسات داخل المدينة، منها المحكمة الرئيسة فيها، ومبنى الخارجية، وغيرهما.
وفي العام 2013 امتدت الاغتيالات لتصل العسكريين وعائلاتهم. وفي 26 تموز (يوليو) من ذلك العام، كان اغتيال أول ناشط مدني، وهو من أوائل ثوار فبراير، ورئيس ائتلاف "17 فبراير"، وذلك أثناء خروجه من الجامع في يوم جمعة في رمضان. وتعاقبت بعدئذ عمليات اغتيال المدنيين والتهديدات. وقد استمرت السلطة المتمثلة بعد انتهاء المجلس الانتقالي، في تجاهل ما يحدث في المدينة؛ بعدم اتخاذ أي إجراءات لحماية سكانها من التهديد المستمر والاغتيالات المتواصلة، وليتمخض ذلك عن اغتيال أول ناشطة نسائية في بيتها، واختطاف زوجها في حزيران (يونيو) 2014. ثم بدأ استهداف الإعلاميين. وليلحق ذلك استهداف الشباب الصغار.
استمرت بنغازي في هذه المعاناة، مع التجاهل التام من قبل السلطة في العاصمة طرابلس لما يحدث في المدينة الثانية في ليبيا، وعاصمة ولاية برقة، وشرارة الثورة. وبنهاية العام 2014، انطلقت "عملية الكرامة" لمحاربة الإرهاب. ولم تكن العملية واضحة المعالم، أو واضحة القيادات أو الخطة، لكن التف حولها الكثير من أبناء بنغازي المنتهكين، كما باقي مناطق وأبناء ولاية برقة في الشرق الليبي، الذين لم يجدوا حبل الإنقاذ في السلطة التي قاموا بانتخابها، فمدوا أيديهم لعملية الكرامة بعيوبها، لقناعتهم أنها آخر ما قد ينقذهم من الترهيب المستمر.
وتتمركز قواعد قوات "كرامة ليبيا" في الشرق الليبي. وهي تتكون أساسا من "قوات الجيش الوطني الليبي"، التي تتكون من مجموعة صغيرة من جنود وضباط المؤسسة العسكرية الليبية، بقيادة اللواء خليفة حفتر، مدعومة بمجموعات من المدنيين داخل المدينة.
لكن بدأت الانقسامات داخل المدينة من جديد؛ بين من مع عملية الكرامة ومن ضدها. ووصلت الانقسامات إلى داخل الجسم الجديد الذي تم انتخابه (مجلس النواب)، والذي انتقل من طرابلس العاصمة إلى طبرق على الحدود الشرقية لليبيا والقريبة من مصر، وذلك لأن بنغازي التي كان يجب أن تستقبل مجلس النواب نتيجة للضغوطات الشعبية تحولت إلى ساحة حرب.
وترتب على انتخاب مجلس النواب وانتقاله إلى طبرق، تشكل برلمانين وحكومتين في ليبيا؛ في الغرب الليبي وفي الشرق الليبي. وترتب على هذا الانقسام تجاهل مدينة بنغازي. وكما يقول المثل "تعاندن الأرياح فجاء يدهن على الصاري"؛ والصاري هنا هو مدينة بنغازي التي شهدت وتشهد الكثير من الدمار والعقوبات، وهي تحت القصف العشوائي والموت وانقطاع الكهرباء لأيام متلاحقة، كما انقطاع الغاز. وقد وصل الأمر بالمدينة في الأيام الأخيرة حد عدم وجود دقيق (طحين)، وبالتالي تم المساس، كما يقول إخوتنا المصريون، برغيف العيش.
ولم يكن مجلس النواب وحكومته بأفضل من المؤتمر وحكومته في الاهتمام، بإعلان حالة طوارئ في المدينة التي نزح أغلب سكانها شرقا وغربا، كما داخلها، نتيجة دمار أغلب مباني وسط البلد الذي توجد فيه أكبر كثافة سكانية. وتتعرض المدينة لاحتمالات الأوبئة نتيجة لتكاثر القمامة.
لكن ما حققته المدينة بالثمن الغالي الذي تدفعه، هو اعتراف الجميع بأن هناك إرهابا في ليبيا. إذ طال الإرهاب الآن المدن الغربية، ووصل إلى مدينة سرت ويتجه غربا. كما اعترفت حكومة طرابلس بوجد تنظيم "داعش" في مدينة درنة في الشرق الليبي.
وما تزال بنغازي تدفع ثمن الصراعات السياسية وإصرارها على الدولة المدنية. ورغم تعب أبنائها، لكنهم بكل شجاعة وصرامة يرفعون همم مدينتهم، من خلال هاشتاغ "#  بنغازي - مدينة - الصبر"؛ فقط صبرت بنغازي، والله لن ينسى أجر الصابرين.

*كاتبة ليبية