بنكرياس للبيع .. بداعي السفر

 

"الحقونا".. أطلقها مرة في العام 1988 نور الشريف عندما استغاث بأي كان لاستعادة كليته المسروقة وسط الفقر والعوز وعلى ايدي من احترف اللعب بقطع غيار البشر في اوكازيون وحراجات "السكراب" لخلق الله.

اضافة اعلان

اليوم وبعد مرور عقدين وأكثر على الفيلم السينمائي الذي بالكاد صدقناه، ولم نتخيل أن نراه حقيقة مُرة.. وانعكاساً مريراً لمرآة الفقر والحاجة وأكل "العيش".. وأين؟! هنا بيننا نحن من ضحكنا كثيراً على غرابة الظواهر التي نراها عند غيرنا.. وحمدنا الله كثيراً ان ما نسمعه ونتابعه حول مآسي غيرنا.. بعيدٌ عنا.

الحمد لله ايضاً لم تعد المآسي المريرة عند غيرنا، بل باتت فينا وعندنا وعلى مرمى نظرنا وتماسنا.

أردنيون، يقرر الفقر والجوع ان يعجنهم ويُسقطهم في مطحنة الحياة والاستغلال ومافيات "آكلي لحوم البشر وكِلاهم" فيتوجهون لبيع اعضائهم قطعة تلو الاخرى.. عبر سماسرة الدم والوعود والدولارات.. تماماً مثل ذلك السمسار الذي خطط لسرقة كلية السائق الفقير "قرشي" في الفيلم الذي لاقى ضجة كبيرة عند عرضه قبل عشرين عاما.

ما نحن بصدده اكثر من سرقة، فهي جريمة انسانية لا تتفق بأي حال من الاحوال مع عقيدة او قانون او خُلُق وهي واحدة من صور الاستغلال البشع لحاجات الناس وفقرهم كتجارة الرقيق؛ أسودها وأبيضها.

اما وقد وصلتنا الظاهرة، بل قفزنا مرة واحدة لنتبوأ ريادة لا نريدها ولا نروم شرفها، عندما اُعلن عن تنظيمٍ من مافيا الاتجار بأعضاء الناس الاحياء من الأردنيين في القاهرة، وتسليم السلطات المصرية هذا التنظيم للاردن.. فقد دخلنا في اللعبة القذرة و"وقعت الفاس بالراس"..

المهم ان عشرات الحالات من اردنيين شل العوز إرادتهم وأفقدهم الجوع قدرتهم على قول لا في مواجهة "زن" السماسرة والوسطاء وقاطعي اوصال البشر، باتوا يتذكرون تجربتهم ويذكرونها بمرارة الندم والغيظ بأن قطعاً من اجسادهم التي هي نعمة من الله سبحانه وأمانة له جل وعلا، قد باتت في احشاء غيرهم مقابل حفنة دولارات آيلة للصرف وستسقط معها آمالهم بغد افضل وصحة احسن.

المشكلة أن من خاض التجربة يؤكد بمرارة، ان لا بيع كلية او قطعة من كبده او عضو آخر من جسده حل مشكلة الفقر، ولا هو عاد الى سابق صحته، عندما كان يتنفس الصعداء بعد كل ضائقٍ مالي او حاجة. فتنتفخ احشاؤه بالأوكسجين ليخرجها؛ أي الجملة الشهيرة وكأنها مبرمجة "الحمد لله.. المهم صحتنا بألف خير".

لم يعد كثير من الاردنيين قادرين على تنفس الصعداء ولا على نفخ بوق التفاؤل ودغدغة النفوس المنهكة. بـ "المهم الصحة بخير"..

لم تعد الصحة بخير.. خصوصاً عند اكثر الفئات المستهدفة من تجار قطع الغيار البشرية.. الشباب في الثلاثينيات حيث الصحة والعافية، والكلى التي تكاد تكون "بورقتها"، ما يرفع سعرها وتقفز معه عمولة الوسيط.

من يصدق منكم ان قيمة الانسان عندنا، رغم كل الظلم والاستهتار ومظاهر الفساد والشللية والواسطة، واغتيال المواهب ودعس النجاحات وسفك الكرامات الشخصية ماتزال محترمة، ما يدفعها حتى اللحظة لأن نتحدث باستغراب عن الظاهرة، وان نتلقف اخبار عصاباتها باستهجان، وأن نسمع ان تحقيقات مكثفة تجرى مع من يقف وراء هذه المافيات.

الحمد لله مازال مجتمعنا بصحة وعافية.. على الاقل

ولم نصل بعد الى حد ان نرى واجهات لمحال تجارية في احدى الشوارع، ترفع يافطات اعلانية وتعلن عن ان "بنكرياس للبيع.. استعمال خفيف" او "كلى طازجة بأسعار خيالية" او حتى شيئاً من قبيل ابداعاتنا الاعلانية "نكسر الأسعار الآن.. اشتر فشة واحصل على قولون مجاناً".

رغم جنون الفكرة.. الا ان محال مشابهة موجودة بالفعل.. في دول قيمة الانسان فيها واعضاؤه.. مجرد بضاعة.

[email protected]