بوح عن الأحزاب

أعلنت الأحزاب نفسها سرية منذ الإنقلاب الاستباقي الذي قاده جلالة المرحوم الحسين على حكومة النابلسي -1957-، وبمرجعيات قومية أو أممية، تواجدت الأحزاب في المدارس والجامعات والنقابات وفي المدن والقرى، وحدها جماعة الإخوان المسلمين كانت تعمل في السر والعلن، وعلاقتها مع النظام ظلت علاقة «حب وكره»، لكنها استمرت بينهما «زواجا» علنيا شرعيا في كل الأوقات .

اضافة اعلان

الأحزاب السياسية الأردنية أغلبها، ناصبت النظام العداء، وضمن تقسيم الخمسينيات والستينيات للأنظمة العربية بين «رجعية وتقدمية» صنفت الأحزاب السياسية النظام الأردني كنظام رجعي، واعتبرت - وخاصة منذ تجربة حلف بغداد، واستبدال الحلف البريطاني بالأميركي – أن التقدمية والثورية تقتضي مناصبة النظام العداء، وبالمقابل اشتهر النظام باسلوب العنف الناعم في التعامل مع الأحزاب فلا هو ظهرا قطع، ولا أرضا للتطور المشروع أبقى.

في المخيمات خصوصا، وفي كل أرجاء الأردن عموما، انتشر العمل «الفدائي» باعتباره عملا سياسيا عسكريا موجها ضد إسرائيل، هكذا بدأ، وهكذا أخذ شرعيته عند النظام وعند الأردنيين جميعا، لكنه بعد ذلك اتجه أيضا لمناصبة النظام العداء، وقد عمل على ترويج مقولة أن النظام هو سبب ضياع فلسطين، وأيضا هو سبب عدم استرجاعها.

وفي غمرة النزاع الحزبي مع النظام، وفي ضوء مفهوم «أولوية» القضية الفلسطينية، الذي كان سائدا عند العرب آنذاك - أغلبهم بطل - وعلى أرضية دعم الأردن التاريخي للقضية الفلسطينية، وعدائه مع المشروع الصهيوني، في ضوء كل ذلك غيب - إلى حد بعيد - الأردن كوطن، والأردني كمواطن عن مجال النضال الحزبي في الأردن، وانقسمت الساحة الأردنية السياسية بين الأحزاب القومية التي ترنو «لزوال الدولة بالوحدة» وبين المنظمات الفدائية التي ترنو لزوالها بالعمل المسلح، وفي هذه الأجواء وقعت أحداث أيلول التي انتهت لتكون انتصارا للنظام والقانون في مواجهة الفوضى وحكم الميلشيات.أحداث أيلول في السبعينيات أعادت ترسيخ عقدة النظام من أحزاب الخمسينيات، وترسخ في عقل الدولة السياسي أن العمل الحزبي هو عمل ضد الدولة وضد النظام، وأن الشعب شعبان شعب مع الدولة والنظام وضد الأحزاب، وشعب خارج عن الملة مع الأحزاب والحياة الحزبية، وانتهى الحزبي ليكون عدوا للدولة المحروم من نعمها، فصارت أهم وصية يقدمها الوالدان لأبنائهم هي الابتعاد عن الحزبية! وصارت الدولة «توقع» أبناءها المبتعثين في الجامعات - ويقال ما تزال - على تعهدات بعدم الإنتماء للأحزاب، بما يشبه «تعهدا بعدم عقوق الوالدين والدولة»!

بعد إلغاء الأحكام العرفية - -1989 عادت الحزبية إلى العلن، ولكن أغلب رموزها كانوا من «الأعداء السابقين» فاستمرت الدولة تستدعي «عقدتها» عن الأحزاب، وفشلت بتهيئة بيئة قادرة على جذب فاعلين جدد للأحزاب، ولهذا وأمام كل ما عبر عنه جلالة الملك في أوراقه النقاشية أكثر من مرة، وفي غير موضع عن أهمية الانخراط في الأحزاب، فإن الدولة والأجهزة المعنية لم تغير رأيها بعد بالأحزاب، وهي عموما لا تثق بهم، والأحزاب عندها حرام، أو أنها مكروهة على أحسن تقدير.

الدولة والنظام لم يلحظا بعد - أو أنهما لا يرغبان - أن الإجماع على النظام النيابي الملكي الوراثي لم يكن محل إتفاق كما هو في آخر عشرين سنة تقريبا، وإن انقلابا في الجبهة الداخلية حصل لصالح التمسك بالنظام، ولهذا ما نحتاجه اليوم هو خلوة بين النظام ونفسه وأجهزته، لحل هذه العقدة النفسية السياسية، ولتكريس وترسيخ أن الأحزاب البرامجية هي مؤسسات وطنية نص عليها الدستور، وأن الحزبيين وطنيون تماما مثل الوزراء والموظفين العموميين، وأنه لا مستقبل سياسي دون مشاركة شعبية حزبية برامجية، ودون ان يغير النظام والدولة ومؤسساتها عقيدتهم وعقدتهم بخصوص الأحزاب، لن تقوم قائمة للعمل الوطني، ولن يتم الإصلاح السياسي، ولن تتمكن الأحزاب من التجذر والتجمع على الأرض، وفي هذا المجال، ورغم أهمية أن يكون الوعي الحزبي عضويا نابعا من سيرورة شعبية بالدرجة الأولى ـ كما دعت الأوراق النقاشية الملكية ـ فإن «إملاء» جلالة الملك لدور الأحزاب بموجب مبادرة وطنية شاملة - أحد محاورها تعديل القوانين ذات العلاقة - لدعم وتكريس الأحزاب والاعتراف بها وبدورها الوطني بات مطلبا وطنيا مستحقا، وضرورة أمن وطني عليا، والله والوطن من وراء القصد جنابك !!