"بيادر" الموت

أنا والحكومة من أشد المعجبين بتجربة الفلاحين الصينيين في الفتك بالطيور، التي كانت تغزو حقولهم في مواسم الحصاد، فتتركها أثرا بعد عين، مع كل ما يترتب على ذلك من خسائر فادحة.

كنت أراقب تطور الابتكار الصيني، رويدا رويدا، كي أستفيد منه، في "كش" الطيور النهمة عن بيادرنا.

وكانت الحكومة، تراقب، أيضا، للحصول على وسيلة ناجعة لـ"كش" طيور أخرى تحلم بالاقتراب من "حقولها"، ومشاركتها في مخرجات "المحاصيل".

في البداية، استخدم الفلاحون الصينيون "الفزاعات" المعروفة، لكش الطيور، فقمت بتقليدهم، حيث نصبت "الفزاعات"، أملا بابتعاد الطيور عن البيادر.

أما الحكومة، من جهتها، فقد كانت تعرف بحكم خبرتها أن هذه "الفزاعات"، المرتبطة بشعارات "ضخمة"، لم تعد تفزع "طيورها"، بعد أن عرفت تلك الطيور، بحكم تجاربها الطويلة، أيضا، أن تلك الشعارات، أوهى من خيوط العنكبوت، وسرعان ما تتغير وتتبدل حسب اختلاف المواسم و"المحاصيل".

وفي آخر المطاف، أصاب الفلاحون الصينيون "كبد" النجاح، حين ابتكروا طريقة فريدة قوامها أن يصطفوا بالمئات وسط الحقول، وفي يد كل منهم "خرقة" من القماش، ثم يبدأون التلويح بتلك الخرق على مدار النهار بأكمله، معتمدين أسلوب المناوبات.

بدورها، كانت الطيور المسكينة، تضطر إلى البقاء محوّمة في الأعلى، من دون أن تجازف بالاقتراب من البيادر، وفي آخر الأمر، كانت تتهاوى ميتة من فرط الجوع والإنهاك.

وبالفعل، فقد نجحت تلك الخطة، تماما، وأمِنَ الفلاحون الصينيون، من ثم ّ، على محاصيلهم بهذه الطريقة الفريدة.

وعلى غرار تجربة الفلاحين الصينيين، عمدت حكوماتنا، أيضا، إلى الأسلوب نفسه، في التـعامل مع رهط الطيور "المزعجين"، الذين ما يزالون يحلّقون، منذ نحو ربع قرن على إطلاق المرحلة الديمقراطية، وإلغاء الأحكام العرفية، فرحا بسماع شعار "الحرية".

ثم حين تجاوزت تلك "العصافير"، مرحلة الانبهار، حاولت، كسائر العصافير، أن تحط على "بيادر" الحرية، التي ظنتها مكدّسة، في كل المواقع، غير أنها بوغتت بـ "الخرق" الملوّحة، في كل مكان، مانعة إياها من التنعم ولو بحبة من "حبوب الحرية".

والأنكى أن "حقول" الممنوعات تفاقمت سنة إثر سنة، بحيث لم يعد ممكنا أن تحط تلك الطيور، ولو على بيوتها التي أقلعت منها ذات بهجة زائفة قبل ربع قرن، سيّما وأن المنع طاول كل شيء، أما "حقل" المسموحات الوحيد لتلك الطيور، فهو إما الارتفاع عاليا باتجاه "عزرائيل"، ومن ثم السقوط ميتة، أو "التساقط" والاندغام مع رهط "الملوّحين" و"الهتّافين"، ومشاركتهم في عملية التلويح و"التهتيف" لإفزاع الطيور الأخرى التي ما تزال ترفض الهبوط إلا على "بيادر" الحرية.

ها أنا أكتب من السماء، وأرى العصافير الأخرى تواصل التحليق، ولا تقوى على الهبوط، من كثرة "الملوّحين"، وموشكة على السقوط، من فرط الجوع إلى كلمة "حرية" واحدة، تغرّدها وهي مطمئنة إلى أن "خرق" المنع لن تطاولها، أو تكشها.

لكن أكثر ما تخشاه، تلك الطيور، أن تتحول إلى صقور، إذا عضها الجوع أكثر.

وها هم رهط "الملوّحين" في الأسفل، ما يزالون يتشبثون
بـ "خرقهم" البالية، خوفا على "بيادر مكتسباتهم" التي كدّسوها بـ"عرق" التلويح و"التهتيف".

اضافة اعلان

المعذرة، هل زعمت بأن حكومتنا استفادت من تجربة الفلاحين الصينيين بكشّ الطيور.. هل قلت ذلك؟ المعذرة، أيضا، فقد كنت أعني العكس.

[email protected]