بيروت كمثال

اسرائيل هيوم

دان شيفتن

اضافة اعلان

خراب سببه اهمال سائب يمكن أن يحصل في كل مكان. مصيبة بيروت ليست الانفجار وثمنه الرهيب، بل حقيقة أنه حتى بعد اعادة الاعمار ليس للبنان احتمال قريب لتوفير جودة حياة دائمة وأمل في الامتناع عن المصائب المنتظمة التي يتميز بها تاريخه في الاجيال الاخيرة. فهذه تنشأ عن الثقافة الفاسدة التي تبناها ابناؤه. مصيبته ليست نتاج المواد القابلة للانفجار التي خزنت في الميناء بل وليدة المواد السامة التي تراكمت في رأسه وفي قلبه. فقد اشتكت المغنية اللبنانية المحبوبة فيروز (نهاد حداد) (1983) بمدينتها المحبوبة وتساءلت "كيف اصبح طعمها طعم النار والدخان" ولماذا "اطفأت قناديلها". الجواب الجزئي يوجد في اغنيتها عن "اجراس العودة" في الطريق الى يافا وبيسان، واعجابها بناصر في الخمسينيات. مؤخرا (2013) قضى ابنها، منتجها الموسيقي والناطق الشخصي بلسانها (في اقتباس نفي بشكل غير مقنع) بان فيروز تحب حسن نصرالله ولو انها كانت مكان الاسد لكانت تصرفت مثله بالضبط).
في الخمسينيات درج في اسرائيل على التعاطي مع لبنان كـ"سويسرا الشرق الاوسط". بعد وقت قصير من ذلك صار يشبه الصومال. بعد أن اعيد بناء بيروت ماديا، جلب عليها اللبنانيون مرة اخرى خرابا سياسية واقتصاديا اعمق بلا قياس من دمار الانفجار. وفي نظرة الى الوراء تبين بأن بيروت كان يمكنها أن تزدهر كجزيرة لا سياسية في الهلال الخصيب، حتى بالمعنى الشامل والمفتوح للكلمة، مثل الاسكندرية وبخلاف بغداد، في ظروف الحكم العثماني والاستعماري. مؤشرات التسامح والارتياح للأطر الاجتماعية والسياسية لم تنجُ من الثقافة السياسية للقومية العربية مع مجيء القوى العظمى، ومن اللحظة التي صممت فيها هذه مصيرها، حسم مصير الانفتاح في المجال العام وصعد نجم الراديكالية البائسة. لو كانت بيروت فقدت ارتياحها وتسامحها في صالح اطار وطني حديث، لكان يمكن اعفاء النفس من الاشواق للصيغة السابقة كحنين شبه "استشراقي" لنظام اجتماعي وسياسي انقضى زمنه. غير أن كل الآليات القمعية – منظومة الولاء القبلي والعلائم الاقطاعية – بقيت على حالها بل وتعاظمت بمعونة القوة السيادية. صحيح أنه في بيروت تعززت صورة "الحياة الطيبة" التي ضللت الكثيرين، ولكن هذه لم تكن الا غطاء لامعا لكيان عفن في قلبها، حيث يعشعش الفيروس الذي يقود هذا المجتمع المرة تلو الاخرى لخرابه.
يعكس لبنان مأساة القومية العربية التي سعت في عهد ما بعد الاستعمار لأن تعيد للعرب في "اختصارات طريق" متطرفة مجد عظمتهم في الماضي، دون بناء المجتمع وتكييفه للتصدي لتحديات القرن العشرين والواحد والعشرين. منذ العشرينيات والثلاثينيات تأطرت بذرة الاضطرابات، التي تلقي بظلها على لبنان حتى اليوم، بإقامة "لبنان الاكبر"، الذي ضم الشيعة في الجنوب، السنة في الشمال والبقاع الى الكيان المسيحي المتبلور جدا في جبل لبنان. وبالذات في بيروت، المنفتحة على الغرب، في الجامعة الحرة نسبيا من رعب الحكم، ازدهر في الاربعينيات والخمسينيات الراديكاليون بالدعوة الى الوحدة العربية لتحرير فلسطين والثأر من هزيمة 1948. من طلائع حركة "كومنت العرب" التي قامت في بيروت خرج بداية المتحمسون من مؤيدي المسيحانية الناصرية ولاحقا المتصلبون من الجبهات "الشعبية"
و"الديمقراطية" لتحرير فلسطين. في السبعينيات استدعى ضعف لبنان سيطرة م.ت.ف
والتدخل السوري العميق واللذين أديا الى عقد ونصف من الحرب الاهلية المتوحشة والهدامة والى غزو اسرائيلي، وصل حتى بيروت. وبعد مسيرة اعمار قاسية وطويلة ادت مرة اخرى به الى انعدام وسيلة متواصلة من جانب الدولة اللبنانية وسيطرة جهة راديكالية اخرى – حزب الله في اسناد مكثف من ايران – الى جر لبنان الى حرب ليست له مع اسرائيل، وفي نهاية المطاف ايضا الى انهياره الاجتماعي والاقتصادي.
لهذا الخراب المنتظم توجد معاذير ويوجد سبب. المعاذير هي تحكم سورية، م.ت.ف، عدوان اسرائيل ومؤامرات ايران. السبب هو امتناع الاجيال العديدة من جانب زعماء الطوائف والفصائل عن بناء مجتمع، امة ودولة لبنانية حديثة، قوية ومسؤولة. من اجل انقاذ لبنان، على زعمائه ان يصحوا وان يقيموها الآن. ولن يفعلوا ذلك.